في حديثي اليوم، أودّ أن أستعيرَ من قاموس الفكر الإسلامي، في الحِقْبة التي تواضَعْنا على نعتِها بعصر النّهضة، عبارَة "الإسلام المُفْتَرَى عليه". كان مفكّرو الإسلام، في الحِقبة المشار اليها، يُكثرون استعمال العبارة المذكورة في معرض الدّفاع عن الإسلام والحضارة الإسلاميّة ضَدًّا على الدّعاوى الّتي كانوا يرون أنّها تَنسُب إلى الإسلام معاني الجمود ورفض التطوّر في كلّ أشكاله.
للافتراء على الإسلام تجلّيات شتّى في خطاب الإسلام السّياسي
فالافتراء على الإسلام يكمُن عند أولئك المفكّرين في الحكم بالتّنافي والتّنافر بين الدّين الحنيف من جهة، وبين متطلّبات "المدنيّة الحديثة" (التّعبير الّذي يفيد معاني التّحديث والحداثة في "قاموس النّهضة العربيّة") من جهة أخرى. واليوم أجدني، بدوْري، في حاجة إلى الحديث عن الإسلام المفترى عليه حين النّظر في الصّورة التي ترتسم للإسلام في أطروحات الإسلام السّياسي والوقوف عند المفاهيم المحوريّة التي تشكّل بُنية خطاب دعاة الإسلام السّياسي.
وللافتراء على الإسلام، فيما كان من القضايا متّصلًا بالحياة العامّة للنّاس، وتلك هي الحال بالنّسبة لشؤون السّياسة ومبدأ الدّولة، تجلّيات شتّى في خطاب الإسلام السّياسي. وفي حديثي هذا، أودّ التّلميح إلى القضيّة الأساس عند دعاة الإسلام السّياسي والتي تقضي بأنّ الدّولة، تصوّرًا ونظام حكم وحضورًا في التّاريخ، بعض من الدّين وجزء من العقيدة الإسلاميّة. والخطأ في هذه الفكرة، أو وجه الفساد في هذا الاعتقاد (كما في لغة متكلّمة الإسلام) يكمن في جهتَيْن:.
الجهة الأولى، الّتي تكشف فساد الاعتقاد بأنّ الدّولة في الإسلام أمر يتّصل بالعقيدة هي أنّنا لا نجد في كتاب العزيز قولًا صريحًا في نظام الحكم ولا ما يفيد التّشريع له، فليس الأمر في القرآن الكريم دعوة إلى التزام العدل في التّعامل بين الأفراد والجماعات واحترام العقود والمعاهدات بين الفئات المختلفة من النّاس أنّه للتّنظيم السّياسي لأمور الناس. والمقرّر عند علماء الإسلام وأهل الحديث أنّه ليس في السُّنّة النّبويّة ما يفيد القول بالأخذ بنوعٍ من التّنظيم السّياسي دون غيره، وانّما الحرص كلّ الحرص في السُّنّة المُحمّديّة، قولًا وسلوكًا يحتذى به، على الالتزام بالعدل والإنصاف وسلوك سبيل الشّورى واجتناب الاستبداد بالرّأي.
ومن المعلوم أن مفكّري الإسلام، في "عصر النّهضة" خاصّة، قد أكثروا القول في هذه القضيّة فعرضوا لها فيما كان يرونه داخلًا في باب الافتراء على الإسلام. ولعلّ من الأنسب، اجتنابًا للّغو وإطالة الحديث، أن نرجع إلى قول محمد عبده الدّولة في الإسلام "مسألة مدنيّة من جميع الوجوه" أو إلى قول صاحب "طبائع الاستبداد" أو إلى رأي صاحب "الإسلام وأصول الحكم" (علي عبد الرّازق) - وهو المفكّر الّذي تعرّض لسوء الفهم والتّشويه القصدي ما لم يتعرّض له غيره مع ما في كلامه من حجّة وقوّة بيان ومع ما فيه من تأييد من شهادة التّاريخ ومن منطق الحكم والسّياسة ومن وقوع على السّمة القويّة التي تسم الدّين الإسلامي فتجعل السّياسة وإدارة الحكم من شأن البشر، يُفيدون من خبرات بعضهم البعض حرصًا على مراعاة مصالح الخلق. وقد يكفيني، في هذا الصّدد، أن أُذكّر بالقاعدة الأصوليّة (نسبة الى علم أصول الفقه - اجتنابًا لكل سوء فهم ممكن) التي تقول: حيث وُجدت المصلحة فثم شرع الله.
مسألة الدّولة وتنظيم شؤون الحُكم في الإسلام لا تدخل في باب العقائد
وأمّا الجهة الثّانية، التي تُبيِّن فساد القول بأنّ المسألة السّياسيّة في الإسلام بعض من العقيدة الإسلاميّة ذاتها، فهو ما يتقرّر عن فقهاء الإسلام وما صار عليه المشرّعون للمسألة السّياسيّة الأكثر شهرةً والأعمق فهمًا (أبو الحسن الماوردي، الغزالي، ابن خلدون، ابن رشد... واللائحة غير قصيرة ولا محدودة). والمقرّر عن هؤلاء جميعًا هو أنّ قضايا الحُكم والسّياسة وتدبير شؤون الحياة العامّة ترجع إلى "المصلحيّات" فلا شأن لها بـ"العبادات" وحدها.
وفي عبارة أكثر بساطة واقترابًا من اللّغة التي نتداول اليوم، نقول: مسألة الدّولة وتنظيم شؤون الحُكم في الإسلام لا تدخل في باب العقائد ولا صلة لها بصحّة التّعبّد وفساده إلّا من جهة مراعاة العدل وتوخّي المصلحة في تدبير شؤون الحياة العامّة.
(خاص "عروبة 22")