اليورو الذي شقّ طريقه للمرة الأولى إلى الأسواق في 1 كانون الثاني (يناير) 2002، هو ذراع سياسة نقدية واحدة صُممت للتطبيق في دول عدة اقتصاداتها متفاوتة من نواحٍ عدة. وطبع اليورو أوروبا المعاصرة بطابعه منذ اعتمدته بروكسيل رسمياً في كانون الثاني 1999 بعد أخذ ورد بدأ في عشرينيات القرن الماضي.
وفي ذلك الوقت، انهمك الأوروبيون باستكشاف إمكانات إقامة اتحاد نقدي واقتصادي يمكنه أن يضمن لبلدانهم الاستقرار الاقتصادي والسياسي ويوثق عرى التعاون في ما بينها لكبح الصراعات التي كانت لاتزال تتأجج. وفي غضون ثمانين عاماً بات اليورو ثاني أكثر عملة متداولة في العالم. إلا أنه لم يُفضِ إلى الاتحاد بل قاد إلى الفُرقة، وفرض تراتبية اقتصادية بين الأقوياء وغيرهم وأشعل خلافات داخلية.
إلا أن الوحدة النقدية المعتمدة حالياً في 20 من دول الاتحاد، لم تكن عديمة الفائدة كما يطيب للشعبويين واليمينيين المتطرفين أن يصفوها. فهي أتاحت للتاجر والمستهلك مقارنة أسعار السلع بشكل أكثر دقة، ما شجع المنافسة بين هذه الدولة المنتجة وتلك. كما أدت إلى تيسير حركة التجارة بين الدول الـ 20، ما انعكس ايجابياً على وتيرة نمو الاقتصاد في معظمها. ولعبت دوراً لا يستهان به في حياة المستهلك من خلال ضخ المزيد من الزخم في النشاط التجاري.
وحررت اقتصادات الدول المعنية من أخطار العملة الناجمة عن تذبذب سعر الصرف، الأمر الذي ساعد على رفع مستوى الاستثمار في منطقة اليورو. ومن فوائدها المباشرة تمكين دول منطقة اليورو من مساعدة بعضها بعضاً. ومعروف أن البنك المركزي الأوروبي اشترى قدراً كبيراً من ديون الدول الأعضاء، في أوقات الازمات (2008 و2020 مثلاً).
في المقابل، لم تقصّر العملة الموحدة في مجال الإضرار بالاقتصادات الضعيفة. فتأثيرها لم يكن موزعاً بشكل متساوٍ في الدول الـ 20 ذات الاقتصادات المختلفة. واليورو يمثل سياسة نقدية واحدة لا تناسب دوماً الظروف المحلية الاقتصادية للدول كافة. ولذا ازداد القوي قوة على حساب الضعيف الذي راح يشير بأصابع الاتهام إلى هذه الدولة أو تلك بسبب الضيق الذي أصابه. وكان لألمانيا حصة الأسد من الانتقادات، لاسيما أن اليورو يعتبر منحازاً إليها منذ يومه الأول.
معروف أن ألمانيا هي صاحبة الاقتصاد الأكبر في الاتحاد الأوروبي وتتمتع بسمعة جيدة في مجال تصميم السياسة النقدية وإدارتها. ولذلك اتُخذ المارك الألماني أساساً لـ"آلية سعر الصرف الأوروبي" التي تعتبر المرحلة الأولى من عمليه إنشاء اليورو. وحدد أعضاء منطقة اليورو أسعار الصرف لديهم بموجب هذه الآلية، أي ربطوا أسعار الصرف بالمارك الألماني باعتباره عملة قوية من شأنها أن تضمن الاستقرار لعملاتهم. لكن هذا الربط مهد لإعطاء ألمانيا الأفضلية الاقتصادية على شريكاتها الأوروبيات كافة.
رأى المستشار الألماني الأسبق هلموت كول أن "أمماً لها عملة موحدة لن تذهب إلى الحرب ضد بعضها بعضاً". إن العملة الموحدة هي أكثر من النقود التي تدفع بها أثمان السلع والخدمات، فالحقائق الاقتصادية تؤثر في الواقع الاجتماعي والسياسي للدولة ذات العلاقة. وكول هو عراب عملة اليورو، كما يذكر البروفسور أشوك مودي، الاقتصادي الكبير الهندي- الأميركي ونائب مدير صندوق النقد الدولي سابقاً، في كتابه المعنون "مأساة اليورو: مسرحية في تسعة فصول" (2018، مطبعة جامعة أكسفورد).
ويجادل في أن الرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو هو من ألح على خلقها بادئ الأمر لتفادي اضطرابات سعر الصرف في العملة الوطنية الذي أجبر فرنسا على خفض قيمة الفرنك مرات عدة. وعندما اضطر بومبيدو إلى خفض قيمة العملة الوطنية مجدداً في1969 شعر بالإهانة. إلا أن المستشار الألماني حينذاك ويلي براندت، رفض الاستجابة لطلبه لأنه لم يشأ أن يحمّل ألمانيا عبء التعويض عن خسائر الدول ذات الاقتصادات الضعيفة. وكان على الفرنسيين أن ينتظروا وصول كول إلى السلطة. فهذا وافق على تلبية رغبة باريس، ولكن بشروط ضمنت حماية برلين من تحمل وزر الدول الضعيفة.
المعطيات الاقتصادية تنعكس على الأرض ارتفاعاً أو هبوطاً في نسبة البطالة وأسعار السلع والخدمات ومستوى التضخم... وهناك من يرد التحولات والأزمات البنيوية التي غيرت أوروبا في فترة ما بعد الحرب في جزء كبير منها إلى النظام النقدي الموحد. وفي العقد الماضي، راحت قوة اليمين المتطرف تتعاظم فيما راجت النزعات الانفصالية، واقتنع البعض بأن الكيان القومي الانعزالي يناسبهم أكثر من الأوروبي التعددي، وهو ما حمل بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي ككل. إلا أن الأطراف الأذكى باتت تفضل العمل على نسف الاتحاد، وعملته، من الداخل.
والآن ينتظر اليورو مصيراً مجهولاً مع صعود اليمين المتطرف، واستمرار الاضطراب في المشهد السياسي في ألمانيا وفرنسا. وإذ ارتفعت قيمته نسبياً تدريجياً خلال العام الماضي لتصل إلى 1.12 دولار، فهي هبطت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة بنحو 9 في المئة. وكان انتخاب دونالد ترامب قد عزز من تراجع اليورو، لاسيما بسبب رسوم الرئيس المنتخب الجمركية المرتقبة التي ستوجه ضربة قاسية إلى دول منطقة اليورو. ومن المتوقع أن تتعادل قيمة العملتين في العام الجديد، وهو وضع لم يشهده العالم منذ 2022 التي صُنّفت "أسوأ سنة في تاريخ اليورو".
بيد أن هناك ما يشبه الإجماع على أن العملة الأوروبية الموحدة لن تفقد الكثير من قيمتها أمام الدولار حتى في حال قويت شوكته كما هو متوقع جرّاء سياسات ترامب الاقتصادية. وإذا لم يتماسك اليورو فعلاً لتسبب انهياره في انهدامات عنيفة وتفكك في الاتحاد الأوروبي. هذا مستبعد في 2025، لكن هل ثمة ما يمنع حصوله في المستقبل؟ يجب أن يكون المرء ماهراً في ضرب المندل حتى يستطيع تأكيد ذلك أو نفيه!
(النهار اللبنانية)