أدّت نظمُ الاستبدادِ السّياسي والتّسلّطي إلى ظاهرةِ موتِ السّياسةِ المتفاقمةِ قبل الرّبيع العربي وما بعده، ومن ثمّ فشل سياساتِ الإدماجِ القَسْرِي بالقوّة في بناء موحِّداتٍ بيْن الجماعاتِ التّكوينيّة التّقليديّة، وتشكيلِ أنسجةٍ جامعةٍ بينها وعابرةٍ لانتماءاتِها الأوّلية. من ثمّ تكوّنت وطنيّات هشَّة لم تترسّخْ قواعدُها التّكوينيّة من خلال السّياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، والأهمّ نُظم تمثيليّة وتَشارُكيّة ديموقراطيّة، تؤسِّس للمشترَكاتِ الجامِعةِ، ودولةِ القانون والحقِّ التي تُوازِنُ بين المصالحِ المُتصارعة والمُتعارضة والمُتنافسة. من ثمّ لم تتكوّن وطنيّاتٌ راسخةُ الجذورِ منذ سايكس - بيكو، وحتّى السّعي الإسرائيلي – الأميركي - البريطاني ومعهُم دول الجوارِ الجُغرافي العربي إلى تغيير الجُغرافيا السّياسيّة للشّرق الأوسَط وخضوعِ العالمِ العربي للطّموحاتِ الإقليميّة للدّول الثلاث وبعض طموحاتِ القادة الجُدُد في دولِ اليُسْرِ العَربيّة.
الأخطرُ أنّ هذه التّركيبات الانقساميّة والانقلاباتِ العسكريّة المُتعاقبة - في العراق وسوريا واليمن والسّودان وليبيا - ساهمَت في هَشَاشَةِ أبنيَة الدّولة وسلطاتِها الثلاث وفي اختصار واختزال الدّولة والنّظام في الطّاغيَة المُستبدّ عند قمّة السّلطة وبعضِ مراكزِ القوّة الضّيّقة والمُواليَة حوله. لم تَعُدْ الدّولة الوطنيّة دولةً، ولا النّظام بات نظامًا، وفق الشّروط والتّقاليد التي أدّت إلى بناءِ الدّولةِ الأمّة في التّقليد الأوروبّي والغربي، ومن ثمَّ لم تتشكّلْ وطنيّاتٌ عربيًّا باستثناء مصر والمغرب، ونسبيًّا تونس.
شيوعُ ثقافة وممارسات الفساد السّياسي والإداري الهيكلي منذ الاستقلال إلى ما بعد الرّبيع العربي
كان الرّبيعُ العربي المَجازي وانتفاضاتُه الجَماهيريّة الواسِعة كاشفًا عن تفكّك الدّول والأنظمةِ السّياسيّة، وتَعْرِيَةِ المُكوّنات الأساسيّة في هذه المجتمعاتِ وتناقُضاتِها وصراعاتِها الاجتماعيّة وخاصة بيْن القلّةِ من السَراة والأغلبيّات الشّعبيةّ المعسورة، وفشل سِياساتِ التّنمية وفق السّياسات النيوليبيرالية. وتمييز بعضِ سياساتِ بعضهم كبورقيبة وبن علي لمناطق دون أخرى، ومثالها السّاحل في مواجهة الوسطِ والجنوبِ التّونسيَيْن، والمدن الكبرى المصريّة وإهمال سيناء ومُدنِ الصّعيد، وقيعان المُدن الكبرى وهوامشها المُتمدِّدة مصريًّا على سبيل المثال، والسّودان في مواجهة دارفور وشرق السّودان وجنوبه قبل الاستقلال عن شماله.
الأخطرُ شيوعُ ثقافة وممارسات الفساد السّياسي والإداري الهيكلي منذ الاستقلال إلى ما بعد الرّبيع العربي وانتشار الرّشى، واختلاس المال العامّ وهيمنة ثقافة اللاقانون في الدّولة والمجتمع. من هنا تحوّلت بعض الدّول من الانتفاضاتِ الجماهيريّة التي رمت إلى بعض التّغيير السّياسي، إلى حروبٍ أهليّة في سوريا واليمن والسّودان وليبيا.
من أخطر العوائق الهيكليّة علاقة الدّين بالدّولة وتوظيفات ذلك بين السّلطات الاستبداديّة والمُعارضات الإسلاميّة السّياسيّة
من أخطر نتائجِ هشاشةِ الدّولة والوطنيّات والطُّغيان السّياسي العربي، صعود بعض الفواعل السّياسيّة ما دون الدّولة، والمُنظّمات الإسلاميّة السّياسيّة الرّاديكاليّة مثل "حزب التّحرير الإسلامي" - اشْتُهِرَ إعلاميًّا بتنظيمه الفنّيّ العسكريّ - وجماعة "المسلمون" التي عُرِفَت إعلاميًّا بـ"التّكفير والهجرة"، و"الجهاد الإسلامي" و"الجماعة الإسلاميّة"، و"التّوقّف والتّبيّن" في مصر، وبعدها "القاعدة" و"داعش" ونظائرهما وأشباههما، و"حزب الله" في لبنان، و"جبهة تحرير الشّام" ومكوّناتها، و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" في قطاع غزّة وبعض خلاياهما ومؤيديهما في الضّفّة الغربيّة.
من أخطر العوائق الهيكليّة في مجتمعٍ ودولةٍ ما بعد الاستقلال التي أثَّرَت في مساراتِها الصّراعيّة هو علاقة الدّين بالدّولة، وتوظيفات ذلك السّياسيّة بين السّلطات الاستبداديّة والتّسلّطيّة والمُعارضات الإسلاميّة السّياسيّة، على نحوٍ ساهم في اضطراب المُجتمعات والدّول العربيّة وساهم في إعاقةِ تكوينِ الوَطنيّات، ودَفَعَ نحو هشاشتِها، وفي نشأة الجماعاتِ الأصوليّة السّياسيّة الرّاديكاليّة، وممارساتِ العنفِ ذات السّند الدّيني، وهو ما سنتناولُه في المقال التّالي.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")