تجلّى هذا التفكّك في عدمِ الاستقرار السّياسي والاجتماعي والاقتصادي في دولِ العُسْرِ العربيّة، وتجسَّد ذلك في "الرّبيع العربي" المَجازي، وفَشَلِ سياساتِ إدارة مراحل الانتقال السّياسي ومرجعُ ذلك عديد الأسباب، ومنها تمثيلًا لا حصرًا ما يلي:
1 - ضعف الرّأسمال السّياسي والدّولتي والخِبْراتي للنُّخب التي أدارَت عمليّات الانتقال، ومعها المُعارضات السّياسيّة الضّعيفَة التي تَفْتَقِرُ لقواعدَ اجتماعيّة داعمَة لها ورؤى وبرامِجَ واقعيّة وعقلٍ سياسي وثّاب.
2 - تزايد أدوارِ الفَواعل ما دون الدّولة في لبنانَ واليمن والسّودان، ومعهم داعموهم من دول الجِوار الجُغرافي العربي - تركيا وإيران وإسرائيل - وهو ما تجسّد في حرب الإبادَة الجَماعيّة في قطاع غزَّة، وتدميرِ مواقعَ عديدة في لبنان - في الضّاحية الجنوبيّة والبقاعِ والجنوبِ -، والاستيلاءِ على مناطقَ عديدة في الأراضي السّوريّة بعد انهيار الدّولة والنّظام الاستبدادي.
غالب الدّول والمجتمعات العربيّة تعاني من باثولوجيا "التّخلّف التّاريخي"
3 - تزايد الفجوَات الجيليّة بين النُّخب الحاكِمة، وجيل "زد" و"ألفا".
4 - تمدّد المُنافسات الضّاريَة بين بعْض قادةِ دولِ اليُسْرِ على لعبِ أدوارٍ إقليميّةٍ تحلّ محلّ مواقع القوّة والأدوار التي لعبتها بعْض دولِ العُسْر تاريخيًّا.
5 - تراجُع مستويات التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة في دول العُسْر، وازدياد واتّساع دوائرِ الفَقر والحياة عند الحافّة للأغلبيّات الشّعبيّة من العُمَّال والفلّاحين والطّبقة الوُسْطَى الصّغيرة وهشاشة الوَسَطِي.
6 - هَيْمَنَة الاستبداد والتسلّطيّة السّياسيّة والقيود الأمنيّة والاستخباراتيّة والقوانين الاستثنائيّة، على الحقوقِ والحرّيّاتِ العامّة والشخصيّة، وتمدُّد الرّقابات إلى المجال العامّ الفِعلي والرّقمي.
إنّ نظرةَ الطّائرِ السّابقة تُشير إلى ظواهرِ التفكُّك الدّاخلي للدّولة والنّظام في غالب المجتمعات العربيّة - والاستثناءات في مِصر والمَغرب ونسبيًّا في تونس -، وفي الإقليم المُضطرب والنّزاعات العربيّة - العربيّة البَيْنِيَّة، وهو ما يطرحُ عديد الأسئلة حول الأسباب التّاريخيَّة والسّياسيَّةِ التي أدّت إلى تفاقُم مشكلاتِ الدّولةِ والمُجتمعِ في عالمِنا العربي.
ثمّةَ عديد الأسبابِ الكامِنة فيما وراء الاختلالاتِ البنيويَّة في دولة ما بعد الاستقلال، وحتّى المرحلة المُضطربة الحاليَّة، وهو ما يمكن ان نرْصده على النّحو التالي:
بعض التأثيرات المُسْتَمَدَّة من نُظُم الإدارة الكولونياليّة تمّ استصحابُها في عمليّات بناء الدّولة الوطنيّة ما بعد الاستقلال
غالب الدّول والمجتمعات العربيّة ما قبل، وتحت الحُكْمِ الكُولونيالي (الاستعماري) تعاني من باثولوجيا "التّخلّف التّاريخي" في نُظُمِهِ الاجتماعيّة، وهَيْمَنَةِ المَجموعاتِ الحِرَفِيَّةِ والطّوائفيّة، والمجموعات العِرقيّة والمَناطقيّة والمَذهبيّة والدّينيّة والعَشائريّة والقَبائليّة، وهيمنةِ الفكرِ الدّيني النّقلي ورُكودِه وتداخلِه وتهجينِه من رجالِ الدّين مع الدِّينِ الشّعبي ومَحمولاتِهِ من الأساطيرِ والمَرْوِيَّاتِ والأعرافِ، مع سَطوةِ البَطريركيّة الأبويّة. ويمكنُ تحديدُ جذورِ الاختلالاتِ الهَيكليّة للدّولة الوطنيّة فيما يلي:
المُستعمرات والإدارة الكولونياليّة:
1 - قامت الكولونياليّة البريطانيّة بتطبيقِ نظامِ الإدارةِ غيْر المُباشرةِ على مستعمراتِها، من خلالِ بعْضِ الشّخصيَّاتِ التي تنتمي إلى بناءِ القوّةِ التّقليدي داخل هذه المُجتمعات، وذلك لإدارة الشّؤون الإداريّة والتّعليميّة والصّحيّة والأمنيّة، تحت بعْضِ الإشرافِ البَريطاني. من أَنْسِجَةِ الإدارة غيْر المباشِرةِ تشكَّلت من خلال التّعليمِ وبعْضِ الخِبْرَاتِ الإداريّةِ من المُوظّفين، النُّخَب البِيروقْراطيّةَ ما بعد الاستقلالِ مع استثناءِ الحالةِ المصريّةِ ودولة محمد علي وإسماعيل باشا، والمرحلة شِبْهِ اللّيبيراليّة. مع مرحلةِ ما بعدِ الكولونياليَّة وحركاتِ التّحرُّرِ الوَطَنِي، تشكَّلَت من بعضِ هؤلاءِ المُوظّفين وبعض التِّكنوقراط من ذوي التّعليم الأورو-أميركي، وقادة الاستقلال، ثمَّ بعض العَسكريتاريَا مع الانقلاباتِ العَسكريّة فيما بعد والمُوالين لها، ومراكز القوة داخلِها، وقواعدهم في التّركيبات الاجتماعيّة التّقليديّة التي جاءوا من أعطافها!
2 - سادَ نظامُ الإدارةِ المُباشرةِ في ظلّ الكولونياليّة الفرنسيّة، من خلال بعضِ الأنظمةِ الفرنسيّة، وفرضِ اللّغة الفرنسيّة في العمل الإداري، وفَرْنَسَةِ التّعليم على نحوِ ما تمَّ في الجزائر وتونس. مع حركاتِ التّحرُّر الوطني، تشكّلت النُّخب السّياسيّة من بعضِ هذه المصادرِ الوظيفيّة، والاستثناء النّسبي تمثّل في الدّولة المَخزَنيّة المغربيّة.
أدّت سياساتُ الزَّبائنيّة السّياسيّة والمحسوبيّات إلى إنتاجِ بعضٍ من مُكوّنات المجتمعِ الانقسامي داخل أبنية الدّولة
لا شكّ أنّ بعضًا من التأثيرات المُسْتَمَدَّةِ من نُظُمِ الإدارةِ الكولونياليّة تمّ استصحابُها في عمليّات بناءِ الدّولة الوطنيّة ما بعد الاستقلال. من ثمَّ شكَّلت مسألةُ بناءِ الدّولة واحدةً من أعقدِ المُشكلاتِ، ومعها النُّظم الاستبداديّة والتَّسَلُّطِيّة عربيًّا باستثناء مِصر والمغرب وتونس نسبيًّا. مصدرُ هذا التّعقيد أنّ النُّخَبَ السّياسيّة والانقلابيّة اسْتَصْحَبَت معها بعضًا من خلفيّاتِها وانتماءاتِها إلى الجماعاتِ التّكوينيّة - القبليّة والعشائرية، والدّينيّة والمَذهبيّة والطَّائفيّة والعِرقيّة والمَناطقيّة واللُّغويّة... إلخ - في كلّ بلدٍ ومجتمعٍ عربي، في إدارتِها للدّولة واختيارِ قادةِ النّظام، ومواقِع القُوَّة حول رئيسِ الدّولة، وقادة الجيش، وأجهزة الأمن، والاستخبارات والأجهزة البيروقراطيّة الأخرى، مع ارتداءِ أقنعةِ "الوَطنيّة" والتّحرّر الوطني، والاستقلالِ، ومعاداةِ الكولونياليّة والإِمبرياليّة!
3 - أدّت سياساتُ الزَّبائنيّة السّياسيّة والمحسوبيّات والموالاة إلى إنتاجِ بعضٍ من مُكوّنات المجتمعِ الانقسامي داخل أبنيةِ الدّولة، والنّظام الشّمولي والتّسلّطي، والسّلطة الحاكمَة، وهو ما أعاد إنتاج بعضٍ من الانقسامات والصّراعات والتّوتّرات داخل أجهزة الدّولة الهشَّة، ومن ثمَّ إلى بعضٍ من سياساتِ التّمييزِ والإِقصاءاتِ والإستبعاداتِ النّسبيّة والجُزئيّة داخل بنيان المُجتمعِ الانقسامي، ومثالها السّودان من قبائل الوسطِ النّيلي الثلاث الكبرى، إزّاء قبائل إقليم دارفور والبجا في شرق السّودان، وجنوب السّودان قبل الاستقلال عن شمالِه في ظلّ الحكم الإسلامي الذي وصل للسّلطة عبر انقلاب عمر أحمد حسن البشير وحسن التّرابي ثم انقلاب بعض "أبناء التّرابي" مع البشير ضدّه!
في العراق، بعضٌ من تَهميشِ المُكوِّن القَومي الكُردي، والمَذهبي الشّيعي والكلدان وآخرين، مع بعض التّمثيلات الشّكليّة من الموالين للنّظام.
في سوريا وانقلاباتها العسكريّة، وسَطوة نَمَطِ الطّاغيَة المُستبدِّ في ظلّ حكم "البَعث"، وأقلّيّاتِه الدّينيّة والمّذهبيّة المُتوافقَة والمُتحاميَة في ظلِّه الاستبدادي حتّى انهيار الدّولة والنّظام مؤخرًا على نحوٍ درامي.
وكذلك الأمر في التّركيبَة الطّائفيّة اللّبنانيّة وبيوتاتِها التّقليديّة وتَحوُّلاتِها، ومراكز القُوَّة مع انتفاضةِ "حركة المَحرومِين (حركة أمل)"، وصعود "حزب الله" وتنامي قوّتهِ وفق الدّعم الإيراني، وبعض قادة ميليشيات الحرب الأهليّة، ومجموعاتِهم السّياسيّة الطّائفيّة بعد اتّفاقِ الطّائف وتحالفاتِهم المُتغيِّرة مع بعضِ كُفلائِهم الإقليميّين من إيران وفرنسا والولايات المتحدة الأميركيّة.
(خاص "عروبة 22")