إن الأحداث التي توالت في لبنان بين انتخاب رئيس جديد للجمهورية يوم الخميس الماضي وتعيين رئيس جديد للوزراء يوم أمس الأول، الإثنين، تشكّل انقلاباً كبيراً في وضع البلاد السياسي. والحال أن تلك الأحداث هي في المقام الأول نتيجة لانقلاب كبير في موازين القوى الفعلية المحدِّدة لذلك الوضع السياسي. ذلك أن السلطة اللبنانية كانت في مراحل أساسية من المسار الذي عرفته البلاد منذ استقلالها في عام 1943 رهنَ توافق بين قوتين خارجيتين متنافستين، وكلّما اختل هذا التوافق والتوازن المرافق له، توتّرت الأوضاع إلى حدّ الانفجار عند بلوغ التوتّر ذروته.
في بداية مسيرة الدولة اللبنانية، قام التوازن بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وعندما اختلّ بسبب تلاشي نفوذ هذين الاستعمارين القديمين وصعود الإمبريالية الأمريكية عالمياً والتيار القومي العربي بقيادة مصر الناصرية إقليمياً، انفجرت الأوضاع إلى أن قام توافقٌ بين الطرفين الصاعدين حول رئاسة قائد الجيش آنذاك، العماد فؤاد شهاب. ثم اختلّ هذا التوازن من جديد بعد تلقّي مصر الناصرية ضربة حاسمة من خلال العدوان الإسرائيلي عليها وعلى سوريا البعث اليساري والأردن في عام 1967. فوصل إلى الرئاسة اللبنانية سليمان فرنجية في عام 1970، تعبيراً عن رجحان كفة الولايات المتحدة، وقد تزامن وصوله مع الضربة القاضية التي تلقتها المقاومة الفلسطينية في الأردن ووفاة جمال عبد الناصر وانقلاب حافظ الأسد على الجناح اليساري في البعث السوري (المعروف باسم "23 شباط").
ومع انتقال مركز المقاومة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان، تفاقمت التوترات إلى أن انفجرت حرب لبنان في عام 1975. وقد تدخّل نظام الأسد في لبنان في العام التالي بضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي بما نجم عنه انتخاب رئيس وقف على ملتقى النفوذين هو إلياس سركيس. غير أن التوافق ما لبث أن انهار إثر وصول الليكود إلى سدة الحكم في إسرائيل، ثم بدء السيرورة التي أدّت إلى معاهدة كامب ديفيد بين مصر أنور السادات وإسرائيل مناحيم بيغن، فتجدّد التوتّر إلى أن اجتاحت الدولة الصهيونية الأراضي اللبنانية في عام 1982.
وقد حاولت فرض رئاسة بشير الجميّل، زعيم أقصى اليمين المسيحي في لبنان، لكن المحاولة باءت بالفشل قبل تولّيه الرئاسة بسبب اغتياله الذي عُزي إلى دمشق. فتلاه شقيقه الذي حاول جرّ لبنان إلى ولوج مسار التطبيع مع إسرائيل على غرار مصر، لكنّ تمرّد القوى اللبنانية المدعومة من دمشق أحبطت مشروعه. وبعد مرحلة من الفوضى المسلّحة، أدّى توافق جديد بين نظام حافظ الأسد والمملكة السعودية إلى انهاء الحرب الأهلية اللبنانية بعد مضي خمسة عشر عاماً على انفجارها. وقد تعزّز التوافق السوري-السعودي بمباركة أمريكية إثر مشاركة النظام السوري في الاستعداد لشنّ الحرب على العراق (حرب عام 1991) تحت قيادة أمريكية-سعودية.
فدخل لبنان في مرحلة "إعادة البناء" تحت إشراف سعودي-سوري جسّده رئيس الوزراء رفيق الحريري والمفوّض السامي السوري في لبنان، غازي كنعان. وقد دام هذا التوافق حتى تدهورت العلاقة بين دمشق وواشنطن بسبب قرار الأخيرة اجتياح العراق وإسقاط نظام حزب البعث فيه. فعاد التوتر وكانت إحدى علاماته البارزة الاغتيالات التي دبّرها النظام السوري، وصولاً إلى اغتيال رفيق الحريري الذي أدّى إلى فورة شعبية انضافت إلى الضغط الدولي لتجبر دمشق على سحب قواتها من لبنان. لكنّ التوازنات بقيت هشّة، لا سيما إثر انعطاف ميشال عون الكامل من رجل ادّعى البطولة في تصدّيه للنظام السوري في لبنان إلى حليف للقوى المنضوية تحت راية النفوذين السوري والإيراني.
فدخل لبنان من جديد في مرحلة اضطراب ناجمة عن هشاشة التوازن السياسي بين الائتلافين، لا سيما وقد عزّز إخفاق العدوان الصهيوني على "حزب الله" في عام 2006 نفوذ هذا الأخير. وقد شهدت المنطقة تمدّد النفوذ الإيراني، مستفيداً أولاً من الاحتلال الأمريكي للعراق الذي فسح المجال أمامه لفرض وصايته على بلاد ما بين النهرين، ثم من الحرب الأهلية السورية، لا سيما بعد لجوء النظام السوري إلى معونة إيران، يمثّلها بالدرجة الأولى "حزب الله" ذاته، بدءاً من عام 2013 على الأخص. فانقلبت الموازين من جديد، إذ أصبح نفوذ إيران طاغياً إقليمياً ونفوذ الحزب طاغياً لبنانياً، فتمكّن من فرض حليفه ميشال عون في كرسي الرئاسة اللبنانية في عام 2016 بعد مضي عقد على تحالفهما.
وقد امتعضت المملكة السعودية من المسار اللبناني والنفوذ الإيراني المتصاعد فيه، فسحبت دعمها للبنان بما أدّى إلى انهيار اقتصاده بدءاً من عام 2019. وبقيت أوضاع البلاد شديدة الاضطراب بسبب انعدام التوافق بين مكوّناته الأساسية، حتى حرب غزّة والقرار الإيراني بالتدخل المحدود فيها، الذي انقلب على "حزب الله" عندما قرّرت إسرائيل شنّ هجمتها عليه، فتمكّنت من قطع رأسه وتدمير معظم طاقته العسكرية، الأمر الذي فاقمه انهيار نظام آل الأسد قبل شهر ونيّف ومعه انهيار جسر الإمداد الرئيسي بين إيران وذراعها اللبناني.
وإنه لعلى خلفية هذا الانعطاف الجديد في موازين القوى الذي رجّح الكفة الأمريكية في لبنان، أن تمّ انتخاب الرجل الذي دعمت واشنطن اعتلاءه منصب الرئاسة اللبنانية منذ انتهاء ولاية ميشال عون، ألا وهو قائد الجيش جوزيف عون. وكانت واشنطن قد راهنت منذ سنوات على الجيش اللبناني بغية تأهيله كي يستطيع القضاء على ازدواجية السلطة في لبنان المتمثلة بوجود "دولة حزب الله" داخل الدولة اللبنانية، وعلى الأخصّ جيش الحزب في موازاة جيش البلاد الرسمي. ومع رجحان الكفّة لصالح النفوذ الأمريكي، عادت المملكة السعودية إلى الاهتمام بالوضع اللبناني تساند مساعي واشنطن.
وإذ شارك "حزب الله" في تزكية جوزيف عون في جولة ثانية من الانتخاب في المجلس النيابي اللبناني بعد امتناعه من تزكيته في جولة أولى لتسجيل دَين عون له، وقد قبل بهذه المساومة بضغط من حليفه الطائفي نبيه برّي، الذي بات مستقلاً بعد انهيار النظام السوري الذي كان مرتهناً به، صُدم الحليفان بتعيين نوّاف سلام لرئاسة مجلس الوزراء وقد سبق لهما، و«حزب الله» على الأخص، أن عارضا تولّيه هذا المنصب مثلما عارضا تولّي جوزيف عون الرئاسة.
أما حصيلة كل ذلك فهي أن التوافق الذي أشرف على سنوات الاستقرار في لبنان، وهي تكاد تساوي سنوات التوتّر أو تقلّ عنها، لم يتجدّد، مما ينذر بدخول البلاد في مرحلة جديدة من التشنّج والصراع المرير، لا سيما إذا حاول الحكم الجديد فرض احتكار الدولة للسلاح في لبنان الذي وعد به عون في خطاب فوزه، بدل أن يسلك الدرب التوافقي الذي وعد به أيضاً. وسوف يرتهن مصير الوضع اللبناني إلى حدّ كبير بما سوف يحصل بين إسرائيل مدعومة من رئاسة دونالد ترامب، من جهة، وإيران من الجهة الأخرى، كما سوف يتأثر بمجريات الحالة في سوريا حيث لا شكّ في أن إيران تنوي إعادة مدّ نفوذها بصورة ما، الأمر الذي لو ترافق باستمرار "هيئة تحرير الشام" في محاولة استئثارها بمقاليد السلطة كافة، قد يعيد سوريا إلى حال الحرب الأهلية.
(القدس العربي)