تَدافَعَت أحجارُ الـ"دومينو" بطريقةٍ دراماتيكيَّةٍ في تسَاقُطِها المُتوَالي من بلدٍ لآخر، فاقْتلاعُ النُّفوذِ الإيراني كانَ شبيهًا بالوَهْمِ الذي سَوَّقَ لتَعاظُمِهِ وتَمَدُّدِهِ لعُقودٍ طويلة، وإلى ما بعْد العَواصِم الأرْبَع. لكنَّ الرِّيَاحَ التي لطالمَا واكبَت أشْرِعَةَ إيران وسُفُنَهَا، سرْعانَ ما انقَلَبَت عليها وسارَت بخلافِ اتِّجاهاتِها.
إنَّها الرِّيَاحُ الأميركيَّة العَاتِيَة التي هبَّت بعد "طوفان الأقصى" وفي السَّنةِ الرِّئاسيَّةِ الأخيرَةِ لجو بايدن، وزادَ عَصْفُهَا قُبَيْلَ جلوسِ دونالد ترامب على كرسيّ "البيت الأبيض" الذي تَفْصِلُنَا عنه بِضْعَة أيَّام تُذَكِّرُنَا بقيامِ الرَّئيسِ الأميركي السَّابِق بيل كلينتون بِقَصْفِ بغداد بِصَلْيَةٍ من "صواريخِ الكروز" قُبَيْلَ سَاعاتٍ قليلةٍ على خروجِهِ من البيت الأبيض. درسٌ يفيدُ بِعَدَمِ تَعَطُّلِ القَراراتِ الاسْتراتيجيَّةِ في اللَّحظاتِ الانتقاليَّةِ الأميركيَّة.
ذابَت مساحيقُ إيران وتَلاشَت مفاعيل صواريخها الصَّوْتيَّة وأصيب جمهور أذرعها بالإحباط نتيجةَ انْكِشاف شعاراتها
على مضَضٍ وبعد مُكابراتٍ مُتواليَةٍ، تُقِرُّ إيران بِأَلْسِنَةٍ مُخْتلفةٍ، بخسارتِها في سوريا، أو بِخِسارتِها لِسوريا. لكنَّها لمْ تَزَلْ ترْمي بأسبابِ هذه الخِسارةِ على الجيْشِ السّوري وحليفِها بشّار الأسد. لقد خَسِرَت إيران المُبَرِّرَ الاستراتيجي لوجودِها ودَيْمومَتِها في المِنطقةِ التي تَضْرِبُها رِياحُ التَّغييرِ الوافِدة من ورَاء البِحَار. بسِحْرِ سَاحِر، تبخَّر نفوذُ إيران وجِنِرَالَاتِها وأيضًا القُوَّات الرَّديفة التي شَكَّلَتْهَا في سوريا. وبِسِحْرِ سَاحر، ذابَت مساحيقُ تَجْميلِ الوُجودِ الإيراني لتَجْعَلَ خُروجَها من سوريا هوَ بالضَّرورةِ خروجًا مِن لبنان، على ما يتصرَّفُ خصومُ "حزب الله".
لقد ذابَت مسَاحيقُ إيران، وتَلاشَت مَفاعيلُ صَواريخِها الصَّوْتيَّة، وأصيبَ جمهورُ أذرعِها ومِحْورِها بالإحباطِ نتيجةَ انْكِشَافِ شِعَارَاتِها بتدميرِ إسرائيل وإزَالتِها من الوُجود. وتجلّى هذا الانْكشافُ أيضًا في دَحْضِ ادِّعاءَاتِ جِنرَالِها قاسم سليماني بـ"امتلاكِ أكثرِيَّةِ المَجلسِ النّيابي اللّبنانِي"، حيث كَشَفَت انتخاباتُ رئيسِ الجُمهوريَّة عن حُلفائِها الذين تحوّلَ بعضُهم باتِّجاه جوزيف عون، قبل أنْ يَضَعَ الثُّنائي الشّيعي أصواتِه المُؤَمِّنَةِ لفوزِه، ما جعلَ "أكثَريَّة سليماني" تذْروهَا الرِّياح.
وعلى الرَّغم من أنَّ انتخابَ جوزيف عون كان نتيجةَ إنزالٍ ديبلوماسي كبير للولايات المتّحدة وفرنسا والسُّعودية أوَّلًا، وكان مجلسُ النّواب المَسْرَحَ الذي أُخْرِجَتْ فيه عمليَّةُ الانتِخاب. فقد لعِبَت السُّعودية خاصَّةً دَوْرًا مَرْكَزِيًّا لانتخابِ جوزيف عون لكيْ لا يقعَ لبنان بعدَ خروجِ إيران من سوريا في "فَمِ" تركيا التي كانَ بإِمكانِها أنْ تَتَحَدَّثَ عن نفوذٍ مُتَفَوِّقٍ يمتدُّ إلى بيروت وليس إلى سوريا، فقد سَبَقَ لتركيا أن طالبَت إسرائيل بتشكيلِ "لجنةِ تنسيقٍ" بديلةٍ للّجنةِ السَّابقةِ بين روسيا وإسرائيل حوْل سوريا.
من شأن الدّخول العربي القويّ إلى سوريا ولبنان المُساهمة في الحَدّ من النّفوذ التّركي
صحيحٌ أنَّ سوريا دخلَت مدارَ نفوذِ تركيا التي يمكنُ القوْل إنَّها وَرِثَت النُّفوذ الإيراني فيها، لكنَّ السُّعوديَّة سرعانَ ما انْفتحَت على الإدَارَةِ الانتقاليَّةِ السّوريَّة، وأطلقَت العَنَان لدورِها الدّيبلوماسي من خلالِ "مؤتمرٍ عربيّ - دوليّ" يهدُف لمساعدةِ سوريا في تَمَوْضُعِهَا الجَديد سِياسِيًّا واقتصَاديًّا وأمْنيًّا حتّى لا تُتْرَكَ وحيدةً بِيَدِ الأتْراك، تمامًا كما سبَقَ وتُرِكَ العِراق بِيَدِ إيران. ولعلّ من شأنِ الدُّخولِ العَرَبي القَويّ إلى سوريا ولبنان المُسَاهَمَة في الحَدِّ من النُّفوذِ التُّركي لا إلغائِه بفعلِ مُؤثِّرَاتِه "الدّينوغرافيَّة" المَعْرُوفَة. وإذا كانَتْ سوريا في طَوْرِ مَرحلةٍ انتِقاليَّةٍ قد تمتدُّ لأربعِ سنوات، بحسب أحمد الشَّرع، فإنَّ انتخابَ جوزيف عون كنُقطةِ تَحَوُّلٍ وتقاطُعٍ في مَوازين القِوى الإقليميَّة، وضع لبنان في مرحلةٍ انتقاليَّةٍ أقلَّ حدَّةٍ من تِلك السّوريَّة.
بعد تساقُطِ أحجارِ الـ"دومينو"، من غزَّة إلى لبنان وسوريا، تَجْرِي عمليّةُ فكّ وإعادةِ تركيبِ المِنطقةِ بخطواتٍ سريعةٍ، تَوازيًا مع محاولاتٍ حثيثةٍ يبذُلها رئيسُ الحكومةِ العراقيَّة محمّد شيّاع السوداني لـ"ضَبْضَبَة" فصَائل "المقاومةِ الإسلاميَّةِ في العِراق" التي انخرَطَت في حربِ "إسناد غزَّة"، ونتيجةَ الضُّغوطِ الأميركيَّة والتَّهديداتِ الاسرائيليَّة ألْجَمَت صَواريخَها ومُسيَّراتِها، وكانت محلَّ نقاشٍ بين السّوداني والمُرْشِد الإيراني، حيث تبايَنَت مَواقفُ الرَّجُلَيْن خُصوصًا مع تشديدِ خامنئي على ضرورةِ الحفاظِ على "الحشْد الشَّعبي" وتَقْوِيَةِ الفَصائلِ وتَعزيزِها.
الهجوم الثّلاثي على اليمن "بروفة" للهجوم الذي قد يشنّه التَّحالف الثُّلاثي على مفاعلات إيران النّوويّة
إعادةُ رَسْمِ مَواقِع النُّفوذِ والهَيْمَنَة تتحرَّكُ على نطاقٍ واسع. ولعلّ في الهجومِ الأميركي - الإسرائيلي - البريطاني المُشتَرَك على صنعاء والحُديْدة وغيرِهما ضدَّ الحوثيّين ما يمكنُ تفسيرُه بالتَّمهيدِ النَّارِي لتَهديداتِ ترامب بـ"الجَحيمِ" اذا لمْ تُحَلّْ مسْألةُ الرَّهائِن الإسرائيليّين في غزّّة قبل تنصيبه. وهو "جَحِيمٌ" قرأَتْه طهران كرسائِل تَهديدٍ مُؤَكَّدَةٍ لها، لذلكَ سارَع الحَرسُ الثّوري الإيراني بعد الضّرباتِ التي استهدفت أذْرُعَه، إلى إطلاقِ تمارينَ دِفاعيَّةٍ تتواصلُ لشَهرَيْن، وتضمَّنَت مُناوراتٍ حَيَّةً للدِّفاعِ عن مُفاعِلاتِها النَّوويَّة في "نطنز" وغيرِها، ولا سيّما أنَّ بعْضَ الخُبراء العَسكريّين يَروْنَ في الهُجومِ الثّلاثي على اليمن "بروفة" أو تمرينًا اسْتِبَاقِيًا للهُجومِ الذي قد يَشنُّه التَّحالُف الثُّلاثي على مفاعلاتِ إيران النَّوويَّة ومنشآتها الاستراتيجيَّة، والتي من شأنِ استِهدافِها المُرَكَّزِ تَقْوِيض النَِّظام الإيراني، وعندَها ستكونُ المِنطقةُ أمامَ تَحوُّلٍ استراتيجيّ كبيرٍ يُلاقي طروحاتِ بنيامين نتنياهو حتَّى وهو في قَبْوِ مُحاكمتهِ حوْل تَغْيير خارطة الشَّرق الأوسَط، تمامًا كما يُلاقِي طُروحَات ترامب في السَّيطرةِ على "قناة بنما" و"غرينلاند" وغيرِهما.
لن نُلِحَّ في طرْحِ السّؤالِ حوْل مَوْقِفَيْ روسيا والصّين، وسنتركُ الاجابَة إلى ما بعد اللِّقاء بين فلاديمير بوتين وترامب الجديد!.
(خاص "عروبة 22")