وبالقياسِ الذي تعرفه علومُ الفقهِ، يمكننا أن نأخذَ المُصطلحَ عينه من نطاقِ الدولة إلى نطاقٍ أوسعٍ هو نطاقُ عالمِنا العربي على امتدادهِ، بدءًا من صلالة في أقصى جنوب الشَّرق في سلطنة عُمان، إلى أصيلة في أقصى شمال الغرب في المغرب.
إذا جَمَعْنا عناصر القوّة لدى الدّول العربية وجدْنا أنفسَنا أمام قوّة هائلة على كلّ المستويات
القوّةُ الشاملة في حالة العالم العربي هي حاصلُ جمْعِ قوّة الدولِ العربية معًا، ولكنَّ المشكلة أنَّ مثل هذا الجمْع سيكونُ خادعًا، لو أنّنَا وضعنا قوّة كلّ دولةٍ إلى جانبِ قوّة بقيةِ الدّول ثم جمعناها، وسوف نكون في وضعٍ أقرب ما يكون إلى حكايةِ جحا عندما كان يمتطي حمارًا ويسوقُ تسعًا من الدّواب أمامه. كان إذا أحصَاها من مكانهِ فوق حمارِه وجدها تسعًا، فإذا نزل وأحصَاها وجدها عشرًا، وهكذا راح يكرِّرُ العدَّ والإحصاءَ من دون أن ينتبهَ إلى السّبب في الاختلافِ بيْن الرّقْمَيْن!.
بالقياسِ أيضًا، ومع الفارقِ طبعًا بين حالةِ جحا وحالتِنا، يتبيَّن لنا أنّنا إذا جَمَعْنا عناصرَ القوّةِ لدى الدّول العربية جميعًا، وجدْنا أنفسَنا أمام قوّةٍ هائلةٍ على كلّ المستويات، فإذا تطلَّعنا إلى واقعِ الحالِ على الأرضِ اكتشفنا أننا أمامَ أمرٍ مختلفٍ، فهذه نقطة وتِلك نقطة أخرى وهناك مسافة ممتدَّة بينهما.
فما السّبب؟... السّببُ هو أنّنا ونحن نجمَعُ إنَّما نتكلّمُ عمّا هو مفترضٌ، أو نتصوَّرُ أنَّ عواصمَ العربِ تكامَلت كلّها فشكَّلت قوةً جبارةً بكل مقياس. لكنَّ الواقع في المقابل ليس كذلك، لأنَّ قوّة كلّ عاصمةٍ تظلُّ في حدودِ كلّ بلدٍ، وتبقى محسوبةً في ميزانِه هو، ولا تكون محسوبةً للصّالحِ العربي العامّ إلّا في القليلِ النادِر.
لذلك، فالذين راودَهم حُلم الولايات المتّحدة العربيّة كانوا في الحقيقةِ يريدون القفزَ فوْق هذه المسَافة التي تفصِل الواقعَ العربي عن المُفترض. فلا شيء في حقيقةِ الأمر ينقصُ هذه المنطقة العربية على مستوى البشر ولا على مستوى الحجر، ولكن ينقصُها أن تتكاملَ مواردُها وعناصرُها فلا يعملُ كلّ موردٍ بمفردِه، ولا ينشطُ كلّ عنصرٍ بمعزلٍ عن بقية العناصر.
اقتصاد الولايات المتّحدة الذي يمثّل الاقتصاد الرّقم واحد في العالم هو حاصلُ جمْع اقتصادات الولايات الخمسين
إذا شِئنا مثالًا يُوضِحُ الفكرةَ ويزيدها وضوحًا، فلنتوقف قليلًا عندَ الدّعوةِ التي أطلقَها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، عندما قال إنَّ كندا يجب أن تكونَ الولايةَ الرّقم 51 في الولايات المتّحدة الأميركيّة. فكثيرون أخذوا دعوتَه على أنَّها مزْحة، ولكنّ الحقيقةَ أنّها ليست مزحةً حتى ولو كانت صعبة، بل مستحيلة التّنفيذ.
إنَّ ترامب رجل أعمال في الأساس، ولأنّه نشأ هكذا ولا يزال فإنّه لا يستطيع أن يتطلعَ إلى ما حوله إلا بمنطقِ رجل الأعمال. وهذا المنطقُ هو الذي يجعله يرى أنّ قوَّة الولايات المتحدة الأميركية في اللّحظة الرّاهنة، هي حاصلُ جمْعِ الولايات الخمسين مع بعضِها البعض، فما بالكَ لو جَمَعَت معَها كندا التي تتمتعُ بمساحةٍ تجعلها الثّانية في العالم بعد روسيا؟.
الولاياتُ الخمسون لا يجمعُ بينها شيء إلا العملة التي هي الدولار ومعها الجيش، فليس لكلّ ولايةٍ عملة تخصّها، ولا لكل ولايةٍ جيش يدافع عنها، وإنما هو دولار أميركي جامع، وجيش أميركي واحد، وفيما عدا ذلك تختلف كلّ ولاية عن الأخرى، فتأخذ فيرجينيا مثلًا بقوانين لا تأخذ بِها كاليفورنيا، وتطبِّقُ فلوريدا نظامًا في حياتِها وحياةِ أبنائها لا تطبِّقُه تكساس، وهكذا إلى آخر القائمةِ على مستوى سائرِ الولايات.
التّكامل هو ما ينقص عواصم العرب فإذا تداركَتْهُ فإنَّها عندئذٍ ستمثِّل رقمًا في عالمنا المُعاصر
لكنَّ هذا كلّه لا يمنعُ أنَّ اقتصادَ الولايات المتّحدة الذي يمثّل الاقتصاد الرّقم واحد في العالم، هو حاصلُ جمْع اقتصادات الولاياتِ الخمسين، وأظنُّ أنَّ هذه الفكرةَ هي التي كانت في ذهنِ ترامب وهو يتحدَّث عن كندا بوصفها الولاية الحادية والخمسين.
وإذا كان اقتصادُ الولايات المتّحدة يُمثِّل في مُجملِه حاصلَ الجمْع بهذه الطريقةِ، فهو من زاويةٍ أخرى يُمثّل حصيلةَ التّكامل والتّداخل بين الاقتصادات الخمسين وليس مجرَّد الجمع. فالجمعُ يضعُ كلّ اقتصاد إلى جانب الآخر من دون تكاملٍ بينها، أمّا التّكامل فهو حالةٌ أخرى بالتّأكيد، وهذا على وجه التّحديد هو ما ينقصُ عواصم العرب، فإذا تداركَتْهُ فإنَّها عندئذٍ ستمثِّلُ رقمًا في عالمِنا المُعاصر.
(خاص "عروبة 22")