منذ نهايةِ الحربِ الباردة، كان الزُّعماءُ السياسيّون ورجالُ الأعمالِ وقادةُ الرّأي بالغرب يروْن أنَّ تَوَسُّعَ تدفُّقاتِ السِّلعِ ورأس المالِ والمعلوماتِ والأفكارِ والبشرِ عبْر الحدودِ أمرٌ لا مفرَّ منهُ ولا رجعةَ فيه، وهو في أغلبِ الأحوالِ تطوّرٌ إيجابي، وأنَّ العوْلمةَ، والتّكامل المتزايد بين اقتصاداتِ ومجتمعاتِ العالم، من شأنِها أن تؤدّيَ إلى تحسينِ الكفاءةِ وارتفاعِ مستوياتِ الدّخلِ والرفاهيّةِ في كل الدّول، وتضييقِ الفَجْوَةِ في مستوياتِ المعيشةِ بين البلدان الغنيَّةِ والفقيرَة.
الغرب يتخلّى بسرعة عن شروط المنافسة الحرّة لمجرّد أنّ الصّين استفادَت منها حتى لو أدّى ذلك لأضرار اقتصاديّة
وبينما تميلُ أدبيّات اليَسَارِ وبخاصَّة في العالم الثّالث لتبسيطِ وشيْطنةِ هذه العوْلمة ووصفِها بأنَّها مجرَّدَ أداةِ هيمنةٍ أميركيةٍ، لكنَّ الواقعَ أنَّ هذه العوْلمة على عيوبِها وفّرَت سِلَعًا متقدمةً ورخيصةً لأغلبِ سكّان العالم، كما كان من أبرزِ المستفيدين منها عددٌ من الدولِ التي كانت تعدُّ فقيرةً يومًا أو ما زالت مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وبصورةٍ أقلّ الهند وبنغلاديش، ولكنَّ أبرزَ المستفيدين بلا منازع كانت الصّين التي أغْرَت الشّركاتِ الغربيةَ بعمالتِها الرَّخيصةِ وشروطِ العملِ المُحابيةِ للأعمالِ (والظَّالمةِ أحيانًا للعمَّال) لتحصلَ بكّين عبْر هذه التجربةِ على التِّكنولوجيا ورأسمالِ المالِ وتصبحَ مُنافسةً للغربِ بشركاتِها وتقنياتِها وعلامتِها الخاصَّة.
واللّافتُ أنّه على الرّغمِ من استفادةِ الاقتصادَيْن الأميركي والأوروبّي من هذه العوْلمة، خصوصًا الشّركات الكبرى والطبقتَان العُليا والوُسطى، لكنَّ طبقةَ العمّالِ البيضِ التّقليدية كانت من المتضرّرين مِنها، بخاصَّة عمال الصّناعاتِ الثّقيلةِ التي انتقلت إلى الدّولِ الناشئةِ مثل البرازيل والصّين، وتحوَّلت هذه الطبقة إلى الدّاعمِ الأهمّ لليمينِ المتطرّف بعدما كانت مخزن اليَسارِ البشَري.
لكنَّ النُّكوصَ الحالي عن العوْلمةِ مدفوع بشكلٍ كبيرٍ بأسبابٍ غير اقتصاديةٍ، بل جرَّاء دوافعَ سياسيةٍ استراتيجيةٍ وأخرى شعبوية، وأبرزُ الدّوافعِ هو الهَوَسُ الغربي إزاء صعودِ الصّين وتحوُّلِها لمنافسٍ تكنولوجي ورأسمالي وعسكري وارتقائها من مستوى الدّولة المتلقِّيَةِ للتِّكنولوجيا والاستثمار إلى قائدةٍ في هذا المضمار مع النّظرِ لها باعتبارِها عدوًّا لا يمكنُ وضعُ شرايينِ الحياةِ الغربية في يدِه حتى لو قدّمت سِلَعًا أرخصَ وأكفَأ.
الحمائيّة الأميركية لم تعُد موجّهة فقط لبكّين بل حتّى لأقرب الحلفاء
إنَّ الغربَ يتخلّى بسرعةٍ عن شروطِ المنافسةِ الحرّةِ التي طالمَا روَّجَ لها لمجرّدِ أنّ الصّين قد استفادَت منها وحتى لو أدّى ذلك لأضرارٍ اقتصاديّة.
فلقد بُنِيَ النَّموذجُ الاقتصادي الأميركي في العقودِ الماضيةِ على تصديرِ واشنطن للتِّكنولوجيا والخِدماتِ والأفكارِ والعلاماتِ التِّجاريةِ مقابل استيرادِها للمنتجاتِ المصنوعةِ بتِكنولوجيَّتِها المصدّرَة بأسعارٍ رخيصة، فمكاسبُ أميركا من هاتف الآيفون أكبر من الصّين التي يُصْنَعُ فيها.
ولكن ما يقلقُ واشنطن ليس مكاسبَ بكّين من "الآيفون"، بل قلقها يأتي من استمرارِ تسرّبِ التِّكنولوجيا إلى الصّين وظهورِ المنافسين الصينيّين مثل "هواوي" و"أوبو".
وهذه الحمائيّة الأميركية لم تعد موجهةً فقط لبكّين، بل حتَّى لأقربِ الحلفاءِ كتايوان التي أجبرَت واشنطن شركتَها الكبرى لتصنيعِ أشباه الموصلات (TSMC) على الاستثمارِ في الولايات المتحدة على الرَّغم من عدم كفاءة هذا الاستثمار.
ويُعَزِّزُ ترامب هذا الاتجاه بتوعُّدِه بالضَّغطِ على الشّركاتِ لإنشاءِ مصانعَ في الولايات المتّحدة، أما أوروبّا التي تحتجُّ على ذلك، فَتَتَقَوْقَعُ بدورِها على نفسِها وتديرُ سياستَها الخاصَّةَ الأقل حدَّةً للانفصال عن الصّين.
من جانبِها، بدأت الشركاتُ الغربيةُ تحوِّلُ جزءًا من استثماراتِها ببطءٍ بعيدًا عن بكّين حيث تنقلُ "أبل" التي بَنَتْ بالأساسِ ثروتَها الطّائلة من الاستثمارِ في الصّين، جزءًا من سلاسلِ توريدِها الصّينيةِ إلى الهندِ وفيتنام وتقلِّلُ أيضًا بعض شركاتِ السياراتِ الغربية استثماراتِها في الصّين.
هذا الخروجُ البطيء من الصّين لا يأتي فقط استجابةً لضغوطِ الحكوماتِ الغربيةِ، بل ايضًا بسببِ تراجعِ قدراتِ الشركاتِ الغربيةِ على منافسةِ نظيراتِها الصّينيةِ التي باتت تمتلكُ تقنياتِها الخاصَّةَ المتطورةَ واكتسبت ثقةَ مستهلكِها المحلّي.
وكان تصنيع شركة "هواوي" الصّينية لمعالجاتِ هواتفِها برقائقَ إلكترونيةٍ محليةِ الصّنعِ بعد الحظر الأميركي عليها، مؤشرًا مُهمًّا لنجاحِ بكّين في التصدّي لمحاولةِ حصارِها.
كيف ستنعكس العوْلمة المتراجعة على العرب؟
تؤدّي هذه السياساتُ لتغيّرٍ بطيء، ولكن مطّرِدٍ وراسخٍ بالاقتصاد العالمي، إذ يحدث انفصالٌ بين الصّين والغربِ، ظهر ذلك في تراجُعِ بكّين عن مكانةِ المُصَدِّرِ الأوَّلِ للولايات المتحدة لصالح المكسيك. في المقابل، تعوِّضُ الصّين تراجعَ تجارتِها مع الغرب والهند بزيادةٍ هائلةٍ للصادراتِ إلى روسيا وكذلك للدولِ الناميةِ بما فيها العالم العربي.
ويهدّدُ هذا النّموذجُ بتعرُّضِ اقتصاداتِ وصناعاتِ هذه الدّول إلى ضغطٍ صيني قد يكون مُضِرًّا للغايةِ، بخاصَّة أنَّ أحد أسبابِ تراجُعِ الصناعاتِ الضعيفةِ أصلًا في عالمِنا العربي خلال العقودِ الماضيةِ كانت المنافسة الصينية والتركية (من بين أسباب أخرى).
يهدّدُ ذلك أيضًا بتزايُدِ العجوزاتِ التجاريةِ للدّولِ العربية غير النّفطية مع الصّين، في الوقت الذي لا تقدِّمُ فيه بكّين مساعداتٍ اقتصاديةً كبيرةً لها مثلما يفعلُ الغربُ ودولُ الخليج.
مِن الضروري أن يتحسّبَ العالمُ العربي من تداعيات أفول العولمة ويحاول أن يحوِّلها إلى فرصة لحصد المكاسِب
لذا هناك حاجةٌ لأن تسعى الدولُ العربية لدفعِ الصّين للقيامِ باستثماراتٍ صناعيةٍ ونقلٍ حقيقي للتِّكنولوجيا إلى منطقتِنا، ولقد بدأت مصرَ بالفعل في تلقّي استثماراتٍ صينيةٍ في مجال صناعةِ السَّيارات.
كما قد يؤدّي التّراجعُ السريعُ للعوْلمة إلى انخفاضٍ في معدلاتِ النّموِ العالمية ما يؤثرُ في أسعارِ النّفط، وفي المقابِل فإنَّ إخراجَ السياراتِ الصّينية الكهربائية من الأسواقِ الغربية قد يبطِئُ عمليةَ التَخلّي عن النّفط.
لقد كانت الدولُ العربيةُ غير النّفطيةِ على الأرجحِ من أشدِّ بلدانِ العالم تضرُّرًا من العوْلمة، ولذا فمِن الضروري أن يتحسّبَ العالمُ العربي من تداعياتِ أفولِ العوْلمة ويحاولَ أن يحوِّلَها إلى فرصةٍ لحصْدِ المكاسِب.
(خاص "عروبة 22")