يقينًا الخسائرُ التي شهدَها القطاع مروّعة ويجبُ عدم التقليلِ من حجْمها، فعددُ الشّهداءِ وصل إلى ما يقرب من 50 ألفًا، والمصابون تجاوزوا المائة ألف، وقطاعُ غزّة هُدِمَ أكثر من ثُلْثَي مبانيه وبات غير قابلٍ للسّكن والحياة، وخسِرت إسرائيل، كما هي العادة، المعركةَ الأخلاقيةَ وارتكبَت جرائمَ بحقِّ المدنيّين الأبرياء لم تُحاسَب عليها، واتَّضحَ عجزُ الأمم المتّحدة ومؤسساتِ الشّرعيّةِ الدوليّةِ عن فرضِ احترامِ قواعدِ القانون الدّولي على دولةِ الاحتلال.
حربُ غزَّةَ أظهرَت الصمودَ الفلسطيني والتضحيةَ والبطولة، ولكنّها أخفقَت في أن تُظْهِرَ أيّ حضورٍ سياسي لكلّ من حركةِ "حماس" والسُّلطة، فالأولى منعزلةٌ عن العالم ويرفضُها حتّى مؤيّدو الشّعبِ الفلسطيني في أوروبّا وأميركا ومعظم دول العالم، واكتفَت بالتّحالفِ مع "الأخوة في المحور الإيراني" والتّواصلِ مع عددٍ من العواصم العربيّة. أما السُّلطة المعترفُ بها عربيًّا ودوليًّا فكان أداؤها ضعيفًا ولم تستطع أن تكونَ على مستوى "زلزال غزّة" وظلّت أسيرةَ السِّجالِ بين "فتح وحماس".
حربَ غزّة أعادت إحياء القضية الفلسطينيّة في نفوس العرب والعالم وأيقظَت أصواتَ الضّمير العالميّ
مُعْضِلَةُ واقعِ ما قبل حرب غزّة أنّ حركةَ "حماس" لم تمتلكْ الجناحَ السّياسي القوي الذي امتلكَهُ المؤتمرُ الوطني في جنوب أفريقيا واستطاع أن يخترقَ الدّولَ الداعمةَ لنظامِ الفصلِ العنصري في بلاده ويصنعَ تحالفًا دوليًّا داعِمًا لنضالِه السياسي والمسلّح داخليًّا. والأمرُ عينه بالنّسبة لجبهةِ التّحرير الوطني الجزائريّة التي استخدمَت الكفاحَ المسلّحَ والنّضالَ السّياسي وصنَّفتها فرنسا في البداية بالجماعةِ الإرهابيَّة، ولكنّها امتلكَت "جهازًا سياسيًّا" قاد مظاهراتٍ في أوروبّا وخصوصًا في فرنسا البلد المحتلّ، وامتلكَ شرعيةَ أن يفاوِضَ الاحتلال حتى نالت الجزائر استقلالَها.
مُعْضِلَةُ "حماس" أنّه ليس لديها جناحٌ سياسيٌ له علاقة بالعالم، وجناحاها العسكري والسّياسي مصنّفان "إرهابيان" بحيث لا يستطيعان التفاوض مع أعدائِهما أو مع مخالِفيهم في التوجّه من دون وسطاء، على الرَّغم من أنّه في كلّ تجاربِ التحرّر الوطني، التنظيمُ المسلّحُ الذي قادَ المقاومة وصنّفته قوى الاحتلال بـ"الإرهابي" هو الذي جلس إلى مائدةِ المفاوضات وقادَ حركةَ التحرّرِ والاستقلال، وهذا غير متاح وغير وارد في المستقبلِ المنظور بالنّسبة لـ"حماس".
لقد اتّسمَ الواقعُ الفلسطيني قبل حرب غزّة بالانقسامِ بين "حماس" التي سيطرت على غزَّة، وبيْن السُّلطة التي أدارَت الضفّة، ورفضَت المنظومةُ الدوليةُ الاعترافَ بالأولى في حين اعترفت بالثَّانية التي فَشِلَت في أن تؤثّرَ فيها.
وعلى الرَّغم من هذا الواقعِ إلّا أنَّ حربَ غزّة أعادت إحياءَ القضيةِ الفلسطينيّة من جديد في نفوسِ العرب والعالم وأيقظَت أصواتَ الضّمير العالميّ في مواجهة جرائم إسرائيل. كما شهِدنا تحركاتٍ ملهمةً لدولةٍ غير عربيةٍ مثل جنوب أفريقيا في مواجهةِ جرائم الإبادة الجماعيّة، وأعلنت دولٌ أوروبيةٌ مهمّةٌ الاعترافَ بالدّولةِ الفلسطينية وفتحَت أبوابًا كثيرةً للنِّضال السِّلمي والقانوني ضدَّ دولة الاحتلال.
حصيلةُ حربِ غزّة لم تغيّر بعد في الواقعِ الفلسطيني، لكنَّ تأثيراتِها تجاوزَت هذا الواقِع، وحان الوقتُ لكي تستعدَّ النُّخَبُ الفلسطينيةُ والقياداتُ الشابَّةُ للتعامُلِ بشجاعةٍ مع استحقاقاتِ المرحلةِ المقبلة، بخاصّة أنَّ الواقعَ الجديدَ يقولُ إنَّ إسرائيل أضعَفَت قدراتِ "حماس" العسكريّة، وبالتّالي أصبحَت قدرتها على الاستمرار في نَمَطِ المقاومةِ المسلّحة عينه الذي استخدمته قبل وأثناء 7 أكتوبر/تشرين الاول غير وارد.
الاستحقاقاتُ الجديدةُ تقولُ إنَّ أدواتِ المقاومةِ المسلحة ضَعُفَت والقدراتِ العسكريةَ لـ"حماس" وباقي الفصائل تراجَعت، في حين فُتِحَ البابُ أمام فرصٍ حقيقيةٍ للمقاومةِ السِّلميةِ والشعبيةِ التي تَضَاعَفَ مناصروها عربيًّا وعالميًّا، وهو أمرٌ يتطلَّبُ وجودَ نُخَبٍ وقياداتٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ تتجاوزُ خطابَ "حماس" والسُّلطة على السَّواء، وتكون قادرةً على بناءِ مشروعٍ فلسطيني للمقاومةِ الشعبيةِ متفاعلٍ مع العالم ويكون طرفًا فاعلًا في الضُّغوطِ والحملاتِ القانونيةِ على دولةِ الاحتلال حتى تنصاعَ لقراراتِ الشرعيةِ الدولية وتُنهي الاحتلال.
على الجانب الفلسطيني تقديم نُخَب جديدة قادرة على الالتحام مع الموجة العالمية التي دعمت حقوق الشعب الفلسطيني
الاستحقاقُ الجديدُ لن يُبْنَى على السِّجال بين "فتح" و"حماس" ولا أنَّ المقاومةَ المسلّحة هي الطريقُ الوحيدُ لتحريرِ فلسطين أو أنَّ الحلَّ سيكون فقط في المقاومةِ السّلميةِ والشّعبيةِ، إنَّما في الإقرارِ بأنَّ صمودَ المقاومةِ المسلحةِ والتّضحياتِ الاستثنائيةَ التي دفعَها الشعب الفلسطيني هي التي فتحَت البابَ على مصراعيه لِتَقَدُّمِ خيار المقاومة الشّعبية.
القوى والتيّارات التي دَعَمَت كفاحَ الشّعب الفلسطيني وتعاطَفَت مع مأساتِه الإنسانيةِ وأدانَت إسرائيل، مستعدةٌ لتقومَ بحملاتٍ قانونيةٍ وممارسةِ ضغوطٍ سياسيةٍ على دولةِ الاحتلالِ في محاولةٍ لردعِها، وهذا الأمر يتطلّبُ من الجانبِ الفلسطيني تقديمَ نُخَبٍ جديدة من كوادرِه في المهجر وفي الدّاخل وبين عرب 48 تكون قادرةً على الالتحامِ مع هذه الموجةِ العالميةِ التي دعمَت حقوقَ الشعبِ الفلسطيني وتعمل على استعادتها.
(خاص "عروبة 22")