عند التطرق لأية قضية هامة تشغل الرأي العام، من غير الممكن تجاهل ما للعصر الذي نعيشه من خصائص، أو ما يعرف بـ"سمات العصر"، من تفاعل مع هذه القضية أو تأثير على مساراتها. ففي هذه السمات تتجلى ملامح التوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية على المستويات كافة محلياً أو إقليمياً أو دولياً، توازنات ترسم في أطرها السياسات التي تنتهجها دولها، وتتحدد في ضوء ما يسمح به مداها آفاق التوقعات والأحلام شعوباً وأفراداً.
فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أواسط القرن المنصرم اتخذت الصراعات بين الدول أنماطاً عديدة، تتفق مع ما يتوافر من قدرات لديها سلمياً على المستوى السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية، أو عسكرياً على مستوى المواجهة المسلحة أرضاً أو بحراً أو جواً أو في الفضاء الخارجي.
مضى ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن على انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن المنصرم، تغيرت خلالها استراتيجية الأمن القومي لوريثته، روسيا الاتحادية، مرات عديدة وتغيرت وفق ذلك عقيدتها النووية التي تقع في قلب هذه الاستراتيجية. صيغت هذه التغيرات من منطلق إصرار هذا الوريث على البقاء قوة عظمى لها شأن لا يمكن تجاهله في صياغة القرارات الدولية، على الرغم من التراجع الكبير في نفوذها إقليمياً ودولياً، من خلال تراجع مساقات آيديولوجية سلفها من جهة والسقوط المتتابع للأنظمة السياسية التي كانت حليفة لها وآخرها النظام السوري من جهة أخرى.
وبرغم تعدد الوسائل المتاحة للدول في استخدام قدراتها العسكرية إلا أن السلاح النووي هو الخيار الأخير، لأن لاستخدامه تداعيات خطيرة لا تقتصر على الحاضر، بل على مآلات أكثر إيلاماً على مستقبل الكائنات الحية والبيئة. لذلك تبرز الحاجة إلى تعزيز قدراتها عبر تعزيز وجودها في قواعد برية وبحرية، تسمح من خلالها التأثير على مسارات الأحداث ورسم مصائرها، في هذا الصدد ليس لروسيا ما يبهر على المستوى الاستراتيجي الدولي، مع أن لها إطلالات واسعة على سواحل محيطات وبحار عديدة، أطولها على المحيط المتجمد الشمالي الذي تشترك في سواحله مع كل من كندا والولايات المتحدة وجزيرة غرينلاند التابعة لمملكة الدنمارك، وتطل كذلك على المحيط الهادي وتطل على البحر الأسود.
حيث ميناؤها الشهير في سيواستبول. إلا أنه ليس لها سوى إطلالة ضيقة على بحر البلطيق الذي يتوسط القارة الأوروبية عبر قاعدتها في كالينينغراد، حيث يمكن إغلاقه في أرخبيل مخرجه من قبل مجموعة من الجزر التي تسيطر عليها السويد والدنمارك، العضوان في حلف الناتو.
في هذا السياق يبرز إلى الواجهة مستقبل الحضور الروسي على سواحل البحر الأبيض المتوسط في قاعدتي حميميم وطرطوس السوريتين، حيث تلتقي القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا، وحيث يتجدد توهج القضايا الشائكة وتتصارع المصالح بين الحكم لها أو عليها. الحرص الروسي في الحضور على شواطىء هذا البحر، كان أحد دوافع إقدامها على احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014، لتأمين التواصل مع إسطولها في البحر الأسود، ومن ثم قيامها بتأمين ممر بري لهذا الإقليم باحتلال أراض أوكرانية أخرى لتأمين التواصل مع هذا الإسطول، إضافة لجسرالقرم الذي أنشأته لهذا الغرض.
خروج هذا الإسطول إلى البحر الأبيض المتوسط يخضع لحرية المرور في مضيقي البوسفور والدردنيل في مدخل ومخرج بحر مرمره، للوصول إلى بحر إيجه الذي يتصل بالبحر الأبيض المتوسط، وهذان المضيقان يخضعان لسيادة تركيا العضو البارز في حلف الناتو. كان للحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023 تداعيات خطيرة على توازنات من شأنها أن تغير صورة الشرق الأوسط، بما يتجاوز تأثير ذلك على النظام الإقليمي إلى النظام الدولي نفسه.
للحضور الروسي في سوريا تاريخ طويل، تعود بداياته زمنياً للأيام الأولى لحكم الرئيس حافظ الأسد، إبان حقبة الاتحاد السوفييتي وكان لوريثته، روسيا الاتحادية، دور كبير في منع سقوط نظام بشار الأسد في العام 2015 بتدخلها العسكري الجوي المكثف. إلا أنه برغم ذلك لم تبد الإدارة السورية الجديدة موقفاً واضحاً إزاء الوجود الروسي، ولكنها وضعت في الوقت نفسه كلاً من إيران وروسيا وإسرائيل في سلة واحدة، حين أصدرت قراراً بمنع دخول أية بضائع من هذه الدول.
لروسيا قراءة واقعية لمستقبل حضورها في سوريا في خطوات استباقية اتخذتها في تخفيف حضورها في قاعدتيها بشكل كبير انتظاراً لما هو متوقع.
(البيان الإماراتية)