بصمات

الطاغية والشرعيّة الدّينية للاستبداد والتسلّط السياسي (1/2)

الثّقافةُ الدينيّةُ النقليّةُ ما قبل الاستقلال لعبَت دورًا في التعبئةِ الدّينيّةِ في مواجهةِ المستعمِر الأوروبّي، وفي إنتاجِ حالةٍ من التّماسُكِ الدّاخلي النّسبي في مجتمعاتٍ عربيةٍ انقسامية، وفي الوقتِ عينِه في تشكيلِ بعض مجموعاتِ المقاومةِ المسلّحة، وبناءِ الهويّة المتخيّلة - الجزائر على سبيل المثال - ومَثّلَ الإسلامُ، الدّيانة والنّظام العقدي والقيم والثقافة واللّغة العربيّة، أبرزَ أدواتِ المقاومةِ ضدّ الفَرْنَسَة، ومحاولةِ المُستعمِر محوَ الهويةِ الجزائريّة.

الطاغية والشرعيّة الدّينية للاستبداد والتسلّط السياسي (1/2)

في بعضِ الدّول العربيّة التي تأسَّست فيها الدولةُ الحديثةُ كمفهومٍ ودلالةٍ وثقافةٍ وهياكلَ وأجهزة - مصر على سبيل المثال - قبلَ الاستعمارِ البريطاني، كان الدّين أحدَ روافدِ المقاومة ضمنَ مصادرَ عديدةٍ شبهِ حداثيةٍ وقوميةٍ شكّلت الحركة القومية الدّستورية.

بعد الاستقلالِ عن الاستعمارِ الغربي - 1936 في مصر، كان دستورُ 1923 يأخذُ بالفلسفةِ اللّيبيرالية في خصوصِ الدّين وعلاقتِه بالحرّيات العامَّة والشخصيةِ من حيث نصّه على أنّ حريةَ الاعتقادِ مطلقة، وكان النصُّ على أنّ دينَ الدولةِ الإسلام محضُ تعبيرٍ عن تحيةٍ من المُشَرِّعِ الدّستوري - وفق الفقيه الدّستوري عبد الحميد متولي - لديانةِ أغلبيةِ المصريّين، ولا يترتّبُ عليها مساسٌ بمبدأ المساواةِ والمواطَنَةِ بين المصريّين أيًّا كانت دياناتهم ومذاهبهم، ومن ثمَّ على الحرّية الدينيّة، على الرَّغم مِن بعضِ القيودِ على بناءِ دورِ العبادةِ المسيحيّة.

ظهرت إشكاليّاتٌ حول علاقة الدّين بالدّولة في مواجهة ميراث التخلّف التّاريخي والاجتماعي

بعد استقلالِ الدولِ العربيّة عن الاستعمارِ الغربي، كان عالَمُ ما بعد الحربِ العالميّةِ الثانيّةِ وسياقاتِه الدوليّةِ والإقليمية، يشهدُ تغيّراتٍ عديدةً على رأسِها الثنائيّة القطبيّة في بنيةِ النّظام الدولي والحرب الباردة، وتمدُّدِ حركاتِ التحرّرِ الوطني "العالم ثالثيَّة" وحركة عدم الانحياز.

ظهرَت مشكلاتٌ وأزماتٌ وإشكاليّاتٌ عديدةٌ حول علاقةِ الدّينِ بالدّولة، والإسلام على وجهِ الخُصوص، في مواجهةِ ميراثِ التخلّفِ التّاريخي والاجتماعي، ومن ثمَّ دورُه في بناءِ الدّولةِ وعلاقته بالنُّظُمِ السياسيّةِ الجمهوريّةِ التي اتّخذت من النّزعةِ الاستبداديّةِ والتسلّطيَّةِ طبيعةً لها في ظلِّ مجتمعاتٍ انقسامية، وعملياتِ تكوين وطنيَّاتِها في طورِ تشكُّلٍ بالغِ الصعوبة، ومعها هُويّاتها الجماعيَّة المتخيّلة.

في هذه السّياقاتِ المتعدّدة، أُثير بعضُ السِّجالات حول الإسلامِ ومذاهبِهِ وسرديَّاتِه التّاريخيّةِ الوضعيّةِ وطبيعةِ الدولةِ والتناقضِ بينها وبين نظامِ الخلافةِ الإسلاميّة، وطبيعة النّظام القانوني الكلّي هل يُسْتَمَدُّ من النُّظُمِ القانونيةِ الأوروبيّةِ الوضعيّةِ أم يخضعُ لنظامِ الشّريعةِ الإسلامية، ومن ثمَّ مدى علاقةِ الدولةِ والنظامِ والسُّلطةِ بالإسلام؟. طُرِحَت هذه الإشكاليةُ أيضًا في إطار علاقةِ الإسلامِ بالاشتراكيّةِ العربيّةِ - والأحرى رأسماليّة الدّولةِ الوطنيّة - في الجدلِ الذي ثارَ في المؤتمرِ الوطني للقوى الشَّعبية الذي عُقِدَ لمناقشةِ الميثاقِ الوطني الذي قدَّمه الرّئيس جمال عبد الناصر. وكشف تقريرُ لجنة الخمسين بعد ذلك عن نزعةٍ سياسيةٍ محافِظةٍ ارْتكزَت إلى بعضِ التّأويلاتِ الدينيّةِ الوضعيّةِ للإسلام.

تمّ توظيف الدّين لأداء الوظائف السياسيّة على نحو جعل من تسييس الدّين مركزًا لاستخدامات السُّلطة ومعارضاتها الإسلاميّة

جوهرُ الحواراتِ المابعدِيّة دارَت حول إشكاليّةِ النصِّ والعصْرِ، والإسلامِ ومسألةِ التّطور الحضاري، أو التقدّم والتخلّف - على التداخُلاتِ بيْن هذه المصطلحاتِ السّائلةِ في الخطاباتِ السياسيّةِ وعدم ضبطِها اصطلاحيًّا ودلاليًّا - ومن ثمَّ ظلّت هذه الإشكاليةُ مستمرةً في العقلِ السياسي، وشاغلةً لوعيِ النُّخَب - على قلّةِ أعدادِهم - وأيضًا في بعضِ العقلِ والوعيِ الجمْعي.

على صعيدِ العقلِ السُّلطوي الحاكِم، تمَّ توظيفُ الدّينِ عمومًا لأداءِ عديدِ الوظائفِ السياسيّة، على نحوٍ جعلَ من تَسْييسِ الدّين، مركزًا لاستخداماتِ السُّلطة، وبعضٍ من معارَضَاتِها السياسيّةِ الإسلاميّة، ما أثَّر سلبًا في تطوّرِ الإدراكِ والوعيِ السياسيّ بمعنى الدّولةِ في تكوينِ السُّلطةِ الحاكمةِ، ومستويات الوعيِ الجمْعي لبعضٍ من الفئاتِ الاجتماعيةِ المختلفةِ ولا سيّما الوسطى، وكذلك على مستوى الجَماعاتِ التّكوينيَّة - الدّينيَّة والمذهبيّة والعِرقية واللّغوية والقبائليّة والعشائرية والمناطقية – في أغلب المُجتمعاتِ العربيةِ الانقساميةِ في ظلِّ انحيازاتِ الحُكّامِ المُتغلّبين، ومحالفِيهم في بنيةِ السُّلطة لبعضِ المجموعاتِ التي جاءوا من أصْلابِها، وإقصاءاتِهم لجماعاتٍ أخرى!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن