تندلع المعاركُ في تقييمِ نتائجِ الحربِ لتحديدِ المنتصرِ والمهزوم، وتغرقُ النُّخَبُ العربيةُ في الاستقطابِ بين من يهاجمُ المقاومة كونها مهزومةً ومن يباهي بِها كونها منتصرةً، ومَن يَحْسبُ الخسائرَ والمكاسبَ فَيَرَى النّصرَ، ومَن يحسبُ الخسائرَ والمكاسبَ عينها فَيَرَى الهزيمة. كلٌّ يَرَى الصورةَ بِعَيْنَيْهِ اللّتَيْن تَغَذّتَا بالقبولِ الدّائمِ أو الرّفضِ المُطلقِ لفكرةِ المقاومة.
الحرب التي بلا أفقٍ سياسيّ مقتلةٌ عبثية وحتّى الآنَ لا ضمانات تقول لإسرائيل إنَّ "كابوس 7 أكتوبر" لن يتكرّر
المؤكَّدُ أنَّ أحدًا لا يرغبُ في تكرارِ هذا السّيناريو الكارثيّ. الحربُ لا يمكنُ أن تكونَ خيارَ شخصٍ عاقلٍ في هذا الزَّمن، لأنّ حروبَ هذا الزَّمان، ببساطة، لا فائزَ فيها ولا خاسِر، ولا طرفَ يستطيعُ ادِّعاء النّجاةِ بالكامل. انتهى زمنُ الحروبِ التى يستسلمُ فيها الطرفُ الثّاني استسلامًا نهائيًّا.
لا تصدِّق إذن أولئك الذين يتحدّثون عن نصرٍ مطلقٍ، أو هزيمةٍ نكراء، هناك أهدافٌ تحقَّقَت وأهدافٌ لم تتحقَّق، وضرباتٌ غير مسبوقةٍ تلقّاها العدوّ لكن بثمنٍ فادحٍ من الضّحايا.
لأيّ حرب، مشروع سياسيّ لا بدَّ من المِضِيّ قُدُمًا فيه، فالحربُ التي بِلا أفقٍ سياسيّ مقتلةٌ عبثية. قتالٌ من أجلِ القتالِ، وموتٌ من أجلِ الموتِ ودمارٌ من أجلِ الدّمارِ.
دَعْكَ إذًا من جدلِ المنتصرِ والمهزوم، الأرجحُ أنّه جدلٌ مقصود، ودعاياتٌ فجَّةٌ تُروِّجُ للمقاومةِ أو تطعَنُ فيها وتروِّجُ لخصومِها وهم كُثُرٌ في إسرائيل والوطنِ العربي الكبير على السَّواء. الغرقُ في هذا التنابُز يصرفُك عن لحظةِ ما بعد الحرب وهي اللّحظةُ الأهمّ في الخمسة عشر شهرًا الدّامية التي مرَّت على غزَّة. واللّحاقُ بِها لحاقٌ بالقضيةِ، وتفويتُها إهدارٌ صارخٌ لدماءِ الشّهداء وآلام الضّحايا.
حتّى الآن لا ضمانات قوية بحكْمِ الخبراتِ المتراكمةِ، تقول إنّ إسرائيلَ ستمتنعُ عن تكرارِ تلك المَقْتَلَة وتلك الإبادة في قادِمِ الأيّام، قد يصمدُ وقفُ إطلاقِ النّار أشهرًا أو سنوات كما صمدَت اتفاقاتٌ قبلَه، لكنَّ الاحتلالَ لا يحتاجُ لذرائعَ ليعبُرَ أزماتِه السياسيّةَ الداخليّةَ على أجسادِ الفلسطينيّين في الضّفّة وغزّة والقُدس.
وحتّى الآنَ لا ضماناتٍ قويةً بحكْم التّاريخ، تقول لإسرائيل إنَّ "كابوس 7 أكتوبر/تشرين الأول" لن يتكرَّرَ بكلِّ تداعياتِه على الدّاخلِ الإسرائيلي، لا ترتيباتٍ أمنيةً ولا توافقاتٍ إقليميةً ولا رهاناتٍ على السُّلطةِ الفلسطينيةِ بوضعِها الحالي.
تِلك هي النتيجةُ الأهمّ لهذه الإبادةِ غيْر المسبوقةِ، وتِلك هي لحظةُ القضيةِ التي تحتاجُ إلى مَن ينفضَ ما يعلق بها من استقطابٍ وتنابز، ليصوغَ لها مشروعًا جديدًا قادرًا على استثمارِ اللحظةِ الآتيةِ من قلْب غزَّة الصامدة، ليبنيَ مشروعًا عربيًّا عنوانُه إنهاءُ الاحتلالِ وإقامةُ الدّولةِ الفلسطينيةِ، وهما هدفان لا يختلفُ عليهِما إثنان ويجبُ أن لا يكونَ هناك اختلاف.
دخلت المقاومةُ الفلسطينيّةُ في هدنتِها، وجاء دورُ السّياسة، ومن العَبَثِ الحديث عن إضعافٍ للمقاومةِ ككتلةٍ عسكريةٍ قبل المِضِيّ قُدُمًا في السّياسة، وكأنَّ الطرفَ العربي يتنازَلُ طوعًا عن أوراقِه ليجلسَ إلى طاولةِ السِّياسةِ غير قادرٍ على تذكيرِ الإسرائيلي بِشَبَحِ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل مِن جَديد.
مع تِلكَ اللحظةِ "التّرامبيّة" التي يدخلُ فيها العالمُ كلّه، جديرٌ بالعربِ أن يصوغوا مشروعَهم الجديد على تلكَ الصفقةِ المكتملةِ بالأبجديّات "الترامبيَّة"، تسويةً عادلةً تضمنُ عدمَ تكرارِ الكابوس، تُنهي الاحتلال، وتأتي بالدَّولة، فتسحبُ من كلّ الأطرافِ التي تلعب بورقةِ المقاومةِ لإعادة تأجيجِ الوضع، شرعيتَها وتأثيرَها ونفوذَها.
يوفّر الموقف السّعودي منطلقًا مُهمًّا للمشروع العربي الجديد: "الدولة الفلسطينية أوّلًا"
جاء ترامب وفي ذهنِه الحصولُ على الجائزةِ العربيةِ الكبرى بإنجازِ اتفاقٍ بين إسرائيل والسّعودية، لكنّ مواقفَ المملكةِ المعلنة واضحةٌ بربطِ أيّ تقدُّمٍ في هذا الملفّ بالدّولة الفلسطينيّة تحديدًا، وهو ربطٌ مباشِر لم يُشْبِه أي مفاوضاتٍ سابقة ارتبطَت بتحريرِ جزءٍ من الأرضِ العربيةِ أو تلك التي بُنيت على ما يُسمّى "السلام مقابِل السلام".
من هنا، يوفِّر الموقفُ السّعودي منطلقًا مُهمًّا للمشروع العربي الجديد: "الدولة الفلسطينيةُ أوّلًا... ومقابِل كلّ شيء". ورسالةُ هذا المشروعِ تحتاجُ إلى تكاتفِ الدولِ العربية والإسلامية التي انخرطت في علاقاتٍ مع إسرائيل، بوضعِ المنطلقِ عينِه كمعيارٍ لتطوّرِ أو فتورِ تلك العلاقات، بالتّوازي مع إصلاحِ السُّلطةِ الفلسطينيّةِ وبناءِ التّوافُقِ الوطني الفلسطيني على قاعدةِ الانطلاقِ من جهدِ المقاومة، لا الانطلاق من إهدارِ هذا الجهد.
تريدُ المقاومة إنهاءَ الاحتلال... ويريدُ تيّارُ الاعتدالِ العربي جلْب الاستقرار... ويريدُ الإسرائيلي الأمن... ويريدُ ترامب وقفَ التصعيدِ المُكْلِفِ للخزانة الأميركية... ويريدُ النّاسُ في الشوارع ألّا تتكرَّرَ الكوابيس، وتِلك لحظة الصّفقة العربية التي يجبُ عدم إهدارها.
(خاص "عروبة 22")