هذه الحربُ التي استمرّت 471 يومًا تأكلُ وتَنْهَشُ في النّاسِ والحجرِ والشّجر، ربّما يخجلُ بعضُنا من أن يجهرَ علنًا بالسّؤال عن حصادِها وجدواها، ومَن انتصرَ فيها ومَن المهزوم؟!.
سنتجاسَرُ نحنُ ونجاوِب، الإجابة عينها التي قلناها هنا بدلَ المرّةِ مرّاتٍ عدّة، ولكن قبل ذلك لا بدَّ أن نتوقَّفَ عندَ الرّقم 471 الذي يُشيرُ إلى عددِ أيامِها، فهو يشبهُ في موسيقاه ووقعِ جَرَسِهِ في الأذُن، عنوان ذلك الفيلم الرّائع "451 فهرنهايت" الذي حقَّقَه المخرج "فرانسوا تروفو" في العام 1966 عن روايةٍ بالعنوانِ نفسه للأديب الأميركي "راي برادبري". وتروفو هو واحدٌ من أبرزِ روّاد تيارِ السينما الجديدةِ في فرنسا وقد أطلقَه في منتصفِ ستينيّات القرنِ الماضي مع جان لوك غودار وألان رينيه وغيرِهما.
كما قاوم النّاس في "451 فهرنهايت" الطغاة قاوم الفلسطينيّون أيضًا وألحقوا بالعدوّ أذى تاريخيًّا غير قابل للعلاج
الحقيقة أنَّ الشَّبَهَ بين الرقمَيْن "451 و471" يتجاوزُ كثيرًا مجرّد موسيقى نُطْقِ كلٍّ منهما، فالفيلمُ والرّوايةُ يحكيَان عن مجتمعٍ خيالي أصابَه حكمُ طغاةٍ من نوعٍ فريد، إذ أقاموا نظامًا قمْعيًّا بالغَ القسوةِ يلامِسُ حدودَ الجنون، وأرادوا أن يمدّوا سطوتَهم وسيطرتَهم إلى عقولِ النّاس عن طريق الرّقابةِ على مجرّد التّفكير وإعمالِ العقل، وقد أظْهروا كراهيةً واحتقارًا شديدَيْن للكُتُبِ بالذّات بوصفِها حافظةً وحاملةً للمعارفِ والإبداعاتِ الإنسانيّةِ كافّة، وقرّروا في غمرَة العسَف الجنوني أن يُقيموا محارقَ للكتبِ ويعاقبوا كلّ من يقتنيها، وهنا اكتشفوا أنَّ 451 درجةً على مقياس "فهرنهايت" هي الدرجةُ المناسبةُ لاحتراق أوراق الكتب، ومن ثمَّ أنشأوا جهازًا حكوميًّا مخَصَّصًا لأداءِ المهمّة.
غير أنَّ النّاس سرعانَ ما قاومَت هذا السطوَ المسلّح بالقمْعِ على عقولهم، واخترعوا وسيلةً تُمَكِّنُهُم من إنقاذِ ما تَيَسَّرَ لهم من الكتبِ بأن حفظوها عن ظهرِ قلبٍ وشكَّلوا مجموعاتٍ سرّيةً يقومُ كلّ عضوٍ فيها بحفظِ كتابٍ واحدٍ على الاقلّ، بحيثُ صارت الكتبُ من لحمٍ ودمٍ وأضْحَت ساكنةً في الرّؤوس لا الورق.
هنا يتجلّى التشابهُ الواصِلُ حدَّ التطابقِ بين حكايةِ الرّقمَيْن، فكما كانَ المعنى الذي حملَه كلّ من الرّوايةِ والفيلم، أنَّ البشرَ عندما يتعرّضون لعدوانٍ غاشمٍ ووحشيّ على حقوقِهم فإنّهم لن يُعْدموا الوسيلةَ لمقاومةِ المُعتدين، فقد قاومَ النّاس العدوان الغاشم على حقِّهم الطبيعي في التّفكيرِ والمعرفةِ وإنارةِ عقولِهم، مُستعينين بالعقلِ عينِه لحفْظِ الكتبِ والحؤولِ دون ضياعها بالحرْق، فانهزَم الطغاةُ وخابَ مسعاهُم... كذلك فعلَ الفلسطينيّون في غزَّة فقد اجترحَت عقولُهم عشراتِ الوسائل البدائيَّة لكي يقاوموا بها عدوًّا عنصريًّا ومسلّحًا حتى الأسنان بأحدثِ أدواتِ القتلِ الأميركية، واستطاعوا أن يوقعوا بهِ خسائرَ موجعة.
لقد بدا الأمرُ وكأنَّ الشّعب الفلسطيني استعانَ بفيضِ جثامين شهدائه لكي يعوّضَ فارقَ القوّةِ الماديَّة الفاحش بينه وبين العدوّ، بمعنى أنَّه حاصرَ العدوَّ حصارًا صارمًا بضحايا عدوانِه من الشهداءِ والمُصابين، وزادَ من حمولتِه حتّى كادَ يركعُ من ثقلِ أوزارِه بعدما كبَّله وأسقطَ سُمعتَه في الحضِيض.
الخلاصة أنَّه كما قاومَ النّاس في فيلم ورواية "451 فهرنهايت" الطغاةَ بحواسِّهم ورؤوسِهم وانتصروا، قاوم الفلسطينيّون أيضًا بأجسادِهم العزلاءِ العاريةِ وألحقوا بالعدوِّ أذى تاريخيًّا غير قابلٍ للعلاجِ أبدًا.
عند هذا الموضع، نعود إلى حيثيَّات الإجابة على سؤالِ من انتصرَ ومن انهزمَ في حربِ غزَّة، ونعيدُ تكرارَ القولِ إنَّ العدوَّ هو المهزومُ استراتيجيًّا قطعًا، أمّا آيات هزيمتِه السّاحقة فهي باختصارٍ شديد، أنّ كلَّ المؤسَّسات والهيئات الدوليَّة، سواء حكومية أو غير حكومية، ومن دون استثناءٍ واحد، أدانتْهُ واعتبرَت سلوكه في الحربِ جرائمَ تستدعي الحسابَ والعقاب، كما أنَّ أبرزَ وأهمّ قادتِه المُجرمين صاروا مُلاحَقِين قانونيًّا أمام القضاء الدّولي بتهمِ ارتكابِ جرائمَ ثقيلة ضدَّ الإنسانية، فضلًا عن أنَّ محكمةَ العدل الدولية تنظرُ حاليًّا في دعاوى قضائيَّة رفعتها العديدُ من الدول المهمّة في العالم تطلبُ فيها الحُكْمَ على الكِيانِ نفسِه بارتكابِ جريمةِ الإبادةِ بحقِّ الشّعب الفلسطيني.
نظام الفصل العنصري في جنوبِ أفريقيا كان يتمتّع أيضًا بدعم الغرب وأميركا لكنّه سقط بالقوّة الأخلاقيّة
وقد يقولُ قائلٌ إنَّ كلَّ ذلكَ لا يهمُّ ولا يؤثّرُ ما دامَ هذا الكِيان يتمتّعُ بدعمٍ لامحدود من الولايات المتّحدة الأميركية على كلّ الأصعدة الاقتصاديّة والعسكريّة والسياسيّة.
هنا ربّما قد يفيدُ التذكيرُ بأنَّ نظامَ الفصلِ العنصري في جنوبِ أفريقيا كان يتمتَّع أيضًا بدعمِ الغربِ وأميركا، مع التّسليمِ بالفارقِ بين الحالتَيْن، لكنَّ هذا النظام سقطَ في النهايةِ بالقوّةِ الأخلاقيّة وحدها وليسَ بقوّة السّلاح.
لكن من يقولُ أو يضمنُ أنَّ أميركا نفسَها لن تتغيَّرَ وأنَّ وضعَها المُهيْمِنَ في العالم لن يتراجعَ إنْ لم يكن قد تراجعَ فعلًا، وهنا يكفي أن نشيرَ إلى حقيقةٍ ذكرَتْهَا مجلة "فوربس" الأميركية في تقريرٍ نُشِرَ مؤخّرًا تشير فيه إلى تراجعِ مشاركة الولايات المتحدة الأميركية في إجمالي الدّخل العالمي من 40% في خمسينيّات وستينيّات القرنِ الماضي، ورويدًا رويدًا، إلى أقلّ من 15% حاليًّا.
(خاص "عروبة 22")