بالنَّظرِ إلى الواقعِ الحالي للزّراعة في الوطن العربي، نجدُ أنّ المساحةَ الإجماليَّة للمنطقةِ العربيّةِ تصلُ إلى حوالى 114 مليار هكتار (نحو 14 ملیون کيلومتر مربّع) ما يجعلُ مساحةَ العالمِ العربي تعادِلُ نحو مرّة ونصفِ المرّة مساحةَ الولايات المتّحدة أو الصّين، بينما تُقدَّرُ مساحةُ الأراضي الزّراعية فيه بحوالى 200 مليون هكتار أي تُعادِلُ نحو 14% من المساحةِ الإجماليّة.
ولكن لا يُزْرَعُ فعليًّا من هذهِ المساحةِ الصّالحةِ للزّراعة سوى 70 مليون هكتار أي أقلّ من نصفِها، ومن هنا يتَبَيَّنُ حجمُ القصورِ في هذا القطاعِ والذي نتجَ عن العديد من العوائِق التي أثَّرت في إنتاجيّتِه وقدرتِه على تحقيقِ الاكتفاءِ الذّاتي من الغذاءِ للسكّان ما يستوجبُ تطويرَ إستراتيجيةِ البلدان العربية للتغلّبِ على تلك المُعَوِّقَاتِ والتي تتنوّعُ ما بين معوّقاتٍ بيئيّةٍ واقتصاديّة.
يجب تعظيم الاستفادة من كل قطرة مياه مُتاحة والاستفادة من تجارب بعض الدول في مجال زراعة المناطق الجافّة
وباستعراضِ أهمِّ تلكَ المُعوّقاتِ وسُبُل التّغلُّبِ عليها، نجدُ أنَّ المُعوّقَ الأوَّل يتمثّلُ في نُدرةِ وشحِّ المياه حيث تعتبرُ المنطقةُ العربيةُ من أكثر مناطقِ العالم جفافًا ونُدرةً في المياه، فنحو 85% من مساحتِها تقعُ ضِمنَ المناطقِ الجافَّةِ وشبْه الجافَّة مما أدّى إلى تعرُّضِ 20% من أراضيها إلى ظاهرةِ التصحُّر.
وهذا يستلزمُ تطويرَ تقنيّاتِ الرّيِّ التقليديّة وتطبيقَ نُظُمِ الرّيّ الحديثةِ بالإضافة إلى الاهتمامِ بمشاريعِ تَحْلِيَةِ المياهِ وإعادةِ استخدامِ مياهِ الصَّرفِ الزّراعي والصِحّي في ريّ الأراضي الزراعيّة مع زيادةِ التَّعاونِ بيْن الدولِ العربيةِ في مجالاتِ إدارةِ المواردِ المائيّةِ وتعظيمِ الاستفادةِ من كل قطرةِ مياهٍ مُتاحَةٍ. ويجب في هذا الإطار الاستفادةُ من تجاربِ بعض الدول في مجالِ زراعةِ المناطقِ الجافّة مثل غربِ أميركا وشمالِ غربِ الصّين وشمالِ شرقِ البرازيل.
ويعتبرُ التغيّرُ المُناخيّ ثاني أبرز المعوّقات التي تواجهها المنطقة العربية نتيجةً لتعرّضِها لموجاتٍ من الجفافِ وارتفاعِ درجاتِ الحرارة، والتي تؤثّر سلبًا في إنتاجيّةِ المحاصيلِ الزراعيّة.
فكما هو مُوضحٌ بتقاريرِ العديدِ من الجهاتِ الدّولية المعنيّة بالتغيّراتِ المُناخيّةِ وأهمّها الهيئة الحكوميّة الدولية، والتي حذّرت من أنَّ المنطقةَ العربيةَ مهدّدَةٌ بانخفاضِ إنتاجيّةِ المحاصيل الزراعية بنسبةٍ تصلُ إلى 20% بحلول عام 2050 نتيجةً للتغيّرات المُتاحة.
لكن يمكنُ التغلّبُ على هذه المشكلةِ من خلال زراعةِ المحاصيلِ المقاومةِ للجفافِ والملوحةِ بالإضافة إلى تعزيز البحث العلمي في مجالاتِ مُكافحة التصحّر واستخدامِ البرامج والنتائج الرئيسيّة لتحليل تأثيرات التغيّرات المناخيّة في الزّراعة في المنطقة واستنباطِ أصنافٍ من المحاصيل الزراعية تتميّزُ بمقاومةِ الظروفِ المناخية القاسيّة، وكذلك المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا لمقاومةِ الجفافِ والملوحةِ والحرارةِ باستخدام الهندسةِ الوراثيّة، وهي من أهمِّ العلومِ الحديثة التي تعملُ على تكيُّفِ المحاصيل مع البيئةِ المحيطَة.
يجب توفير بيئة داعمة للمستثمرين المحلّيّين والدوليّين بهدف التوسُّع في المشاريع الزراعيّة الصغيرة والمتوسطة
أما التحدّي الثالث الذي يواجهُ التّطوّرَ الزراعي في الوطنِ العربي، فيتمثَّلُ في استخدامِ مُعظم الدول العربيّة لنُظُمِ الزراعةِ التقليديَّةِ ذات الإنتاجيّةِ المُنخفِضة مقارنةً بالعديد من الدّول التي تستخدم حاليًّا التِّكنولوجيا الحديثة التي تعملُ على زيادةِ الإنتاجيّة وتحسينِ الجودة.
ومن أهمِّ تلكَ التكنولوجيّات، الزراعةُ الدقيقةُ والزراعةُ الذّكيةُ ومَيْكنةُ العمليّاتِ الزراعيّةِ باستخدامِ أحدثِ الآلاتِ الزراعيَّة، وكلّ تلكَ النُّظمِ تعملُ على زيادةِ الإنتاجيّةِ وتقليلِ الفاقِدِ في المحصول.
كما يجبُ زيادةُ الاستثماراتِ في مراكز الأبحاث العلميّة وتحسينُ وعي المُزارعين بأهميّةِ استخدامِ الأساليبِ الحديثة في الزراعة من خلال برامجَ تدريبيةٍ متطوّرةٍ وتبادُلِ الخبراتِ بين الدّول العربيةِ، إلى مبادراتٍ حكوميةٍ تهدِفُ إلى دراسة التحدّيات الإقليميةِ وتطبيقِ النُّظم والتكنولوجيّات الحديثة مع توفيرِ القروضِ المُيَسَّرَةِ للمُزارعين لمساعدتِهم على تطبيقِ هذه النُّظم والتكنولوجيّات.
باستعراضِ ما سبقَ عرضُهُ من واقعٍ وتحدياتٍ، ومن أجل تحقيقِ الاكتفاءِ الذّاتي من الغذاءِ وزيادةِ الصّادرات الزراعيةِ من بعض المحاصيلِ التي تتميّزُ بها المنطقة العربيّة، فإنَّه يجبُ جذبُ المزيدِ من الاستثماراتِ وتوفير بيئةٍ داعمةٍ للمستثمرين المحلّيّين والدوليّين بهدفِ التوسُّع في المشاريعِ الزراعيّةِ الصغيرةِ والمتوسطةِ والاستثمارِ في الأبحاثِ والتطويرِ والتقنيّات الجديدةِ والمُبْتَكَرَةِ التي تحقِّقُ زيادةً في الإنتاجيَّة.
التغلّب على التحدّيات والمعوّقات يتطلَّب تعاونًا عربيًّا بيْنيًّا وتبادل الخبرات والاستثمارات ووضع الاستراتيجيَّات المُلائمة
وهناك العديدُ من الأمثلةِ الناجحةِ التي تمَّت، مثل مشروعِ المليون ونصف مليون فدّان في مِصر والذي ساعدَ على زيادةِ الرّقعةِ الزراعيةِ وتوفير العديدِ من فُرصِ العمل، ومشروع التوسُّع في الزّراعات المائيّة بالامارات، والذي أدّى إلى تحسينِ إنتاجِ محاصيلِ الخضراوات مع تقليلِ استهلاكِ مياه الريّ، بالإضافةِ إلى مشروعِ استراتيجيّةِ المغرب الأخضر والتي حقَّقَت نجاحًا كبيرًا في تطويرِ القطاعِ الزراعي في المملكةِ من خلال التّركيزِ على الابتكارِ والاستدامة.
وتُقدِّم هذه المشاريعُ مؤشِّراتٍ إيجابيةً إلى إمكانيةِ تحقيقِ طموحات الوطن العربي في تحقيقِ الاكتفاء الذّاتي والتوسُّعِ في الأنشطةِ الزراعيّة والتغلّبِ على التحدّيات والمعوّقات التي تواجه القطاع الزّراعي. ولكن ذلك يتطلَّبُ تعاونًا عربيًّا بيْنيًّا وتبادلَ الخبراتِ والاستثمارات، ووضعَ الاستراتيجيَّات المُلائِمة، للاستفادةِ القُصوى من الثّروة الزراعيّة العربيّة.
(خاص "عروبة 22")