صحافة

سوريا بين الاستقطاب وإعادة البناء

مالك العثامنة

المشاركة
سوريا بين الاستقطاب وإعادة البناء

لطالما كانت سوريا بلداً متنوعاً في تكوينه، يشكل مزيجاً من الأعراق والطوائف والثقافات التي تعايشت لعقود طويلة، إلا أن هذا التنوع، والذي يُفترض أن يكون مصدر قوة لسوريا، تحوّل في ظل الأزمة المستمرة منذ مطلع العقد الماضي إلى ساحة استقطاب حاد ساهم في تعميق الانقسامات، وتعطيل أي جهود حقيقية لبناء دولة سورية حديثة تتسع لجميع السوريين.

منذ عام 2011، عانت سوريا حرباً داخلية أنهكت بناها التحتية، وأثّرت بشكل جذري على نسيجها الاجتماعي، فانقسم المجتمع السوري على أسس طائفية وعرقية وأيديولوجية، ما جعل معظم الحلول المطروحة لإنهاء الأزمة أقرب إلى تصفية الحسابات منها إلى رؤية وطنية جامعة. ولا يمكن لسوريا أن تنهض طالما ظل هذا الاستقطاب متحكماً في مسارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والدبلوماسي، ومن ثم فإنه لا سبيل للخروج من دوامة الاستقطاب الداخلي هذه إلا من خلال إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة كإطار يضم جميع مواطنيها على اختلاف مشاربهم، وعلى قدم المساواة، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو السياسية.

إن إعادة بناء سوريا لا تقتصر على تشييد وترميم المباني والجسور، وبقية المرافق والمكونات المختلفة للبنية التحتية، بل تبدأ حتماً بإعادة بناء الإنسان نفسه، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد في وقتها الحالي. لقد خلقت سنوات الحرب الأهلية أجيالاً من الأطفال السوريين الذين حُرموا مِن تلقي التعليم، وشباباً نشأوا في بيئات مشبّعة بأفكار التطرف أو ثقافة الإحباط، علاوة على الاقتصاد الذي أصبح يعاني شللاً شبه كامل.

إن أكثر من 80 في المئة من السوريين في الوقت الحالي يعيشون تحت خط الفقر، أما معدلات البطالة بين الشباب فهي في مستويات قلّ نظيرها على مستوى العالم، وهو الأمر الذي يجعل من إعادة الإعمار عمليةً معقدة للغاية، ومن ثم لا يمكن اختزالها في مشاريع هندسية وإنشائية فقط.

لذلك فالمطلوب سورياً، خلال هذه المرحلة، هو استراتيجية شاملة تبدأ بتوفير التعليم الجيد، وإطلاق برامج تنموية تخلق فرص عمل، وتعزز ثقافة المواطَنة والانتماء بعيداً عن الولاءات الفرعية الضيقة. وعلى الدولة السورية أن تعمل على استعادة ثقة المواطن السوري بمؤسساتها، من خلال احترام حرياته وضمان حقوقه الأساسية، وإشراك جميع مكونات المجتمع السوري في بناء مستقبل البلاد، بدلاً من تكريس عقلية الإقصاء والإلغاء التي سادت طوال العقود الماضية.

لا يمكن بناء سوريا جديدة دون التصالح مع ماضيها القريب، ولا يمكن ترميم الجراح العميقة دون اعتراف واضح بأن الحل الوحيد هو إقامة الدولة العادلة، التي لا تميّز بين مواطنيها، ولا تُبنى على حساب فئة لصالح أخرى، فالمستقبل لا يتشكل بإرادات مفروضة، ولا بتسويات قسرية، بل عبر عقد اجتماعي جديد يعيد لسوريا هويتَها الجامعة، وينهي سنوات الصراع التي جعلت منها ساحة لتجاذبات لا تخدم إلا استمرار الأزمة.

سوريا بحاجة إلى نهضة فكرية واجتماعية توازي أي جهود سياسية أو اقتصادية، لأن البناء الحقيقي هو ذلك الذي يبدأ بالعقول التي ستعيد تشكيل هوية الوطن.

(الاتحاد الإماراتية)

يتم التصفح الآن