إذا كان وقف النار في غزة وجنوب لبنان انتصاراً في نظر "حماس" و"حزب الله"، فلماذا إذن الهجوم على إسرائيل من البداية ثم استجداء وقف النار الذي كان قائماً قبل عملية "طوفان الأقصى"؟! هل طعم وقف النار بعد حرب عامٍ و3 أشهر، لم يَبقَ فيها حجر على حجر في غزة وجنوب لبنان، يكون ألذّ بعد فَقْد عشرات الألوف وتهدم منازل مئات الألوف؟!
ثم نحن لا نسأل عما تحرر من أرض؛ بل إلى متى يستمر الاحتلال الإسرائيلي في المناطق التي احتلها مؤخراً رغم الانتصار بالطبع. فبالتوازي مع اندفاع الحشود من جنوب قطاع غزة إلى شماله، دفع "حزب الله" عشرات من القرويين باتجاه المَواطن التي احتلتها إسرائيل وترفض الانسحاب منها بعد مهلة الستين يوماً، فكانت المذبحة وتعيير "الحزب" للجيش والدولة بعدم القدرة على اتخاذ القرار وعدم إصغاء الدوليين لرجائهم.
مع ذلك كله، أعلن الطرفان ("حماس" و"حزب الله") الانتصار، واستشهدوا على شعبيتهم الغلّابة، رغم الكارثة، باندفاع الناس؛ وإنْ نحو الموت، كما يأمرونهم. في لبنان تتكرر المحنة لجهتين؛ ففي عام 2006 هاجم "الحزب" إسرائيل، فردت بحرب شعواء ما توقفت إلا بعد شهرٍ ونيف. يومها كان "انتصار الحزب إلهياً"، وصار كل الذين لم يدعموا حربه خونة ومتآمرين.
بينما الواقع أن إسرائيل احتلت 6 كيلومترات بالداخل اللبناني، ولم تنسحب من معظمها (وليس كلّها) إلّا عام 2010. وتحت وهج الانتصار المزعوم آنذاك استولى "الحزب" مع حلفائه؛ نبيه بري والجنرال ميشال عون، على الحكومات والمرافق؛ ومنها المطار والمرفأ، وصارت الحكومات تتشكل بأكثرياتٍ لمصلحتهم، وعندما يرتفع صوت مسيحي أو سُنّي تحدث اغتيالات وينزل "أصحاب القمصان السود" إلى شوارع المسيحيين والسُّنة مهددين وصارخين: "شيعة شيعة!"، وأخيراً، وبعد الهزيمة النكراء والتضحية بالمساكين؛ وبينهم 9 أطفال، طافت الغوغاء بالشوارع كالعادة، وتوشك الحكومة العتيدة تتشكل بالشروط والظروف نفسها، إلّا إذا صمد الذين دعموا الرئيس والرئيس المكلف ورفضوا المشاركة في حكومةٍ هذا شأنها.
هو تاريخٌ يوشك أن يُنسى، ففي الصراع مع إسرائيل كانت الجيوش هي التي تقاتل فتنجح نصف نجاحٍ أو تفشل. ثم حلّت الميليشيات محلّ الجيوش، وفي طليعتها "منظمة التحرير" التي نجحت بعد خليطٍ من العمليات القتالية والتمردات السلمية بالداخل الفلسطيني في التوصل إلى "اتفاق أوسلو" عام 1993. وكانت وجهة نظر الرئيس السوري حافظ الأسد أن ياسر عرفات فرّط، وأنه كان بوسعه الحصول على صفقةٍ أفضل بكثير.
ولذلك جرى دعم حركة "حماس" وتحويلها إلى فصيل أو فصائل مسلحة صارت تمارس أعمالاً قتاليةً في وسط المدنيين بالداخل الإسرائيلي بدعمٍ من "سوريا الأسد". وكما ثار الإسلامويون على ياسر عرفات، ثار اليمين الإسرائيلي على إسحاق رابين؛ شريك عرفات في الاتفاق، وقَتَله. واستمر الطرفان في التفاوض على إكمال تنفيذ الاتفاق، ومع عرفات، ثم مع حافظ الأسد، من دون جدوى، ومرة ينسحب ياسر عرفات في اللحظة الأخيرة، ومرة ينسحب الطرف الإسرائيلي.
أما بعد موت حافظ الأسد ثم ياسر عرفات، وسيطرة شارون فنتنياهو على الداخل الإسرائيلي، فإنّ المفاوضات صارت نادرة، والتغييرات الأهمّ كانت تخلّي شارون عن غزة عام 2005، وانفراد "حماس" بالسيطرة عليها عام 2007. وتوالت الحروب والهُدَن بين إسرائيل و"حماس"، وكانت حرب "طوفان الأقصى" عام 2023 هي الرابعة. وعلى الدوام تفضّل إسرائيل "حماس" على "سلطة أوسلو" بالضفة.
بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، وصدور القرار الدولي رقم 1701 عام 2006، بقيت السيطرة على الجبهة لـ"الحزب" رغم وجود الجيش اللبناني والقوات الدولية، إلى أن هجمت "حماس" تحت عنوان "الطوفان"، وتدخل "الحزب" تحت عنوان "إسناد غزة"، فكانت حرب الإبادة على الجبهتين التي استمرت عاماً و3 أشهر، ولَمّا تنتهِ بعد.
لقد تعاظمت الآمال هذه المرة بتحرر لبنان من سيطرة "الحزب" ومع سقوط النظام السوري، وبتحرر غزة وفلسطين من "حماس". لكنّ الظاهر حتى الآن بقاء الأوضاع على حالها كما قبل الحرب في غزة ولبنان. فـ"حماس" لا تزال تستعرض حشودها في غزة كأنه لم يحدث شيء، و"حزب الله" يكتسح بالدراجات النارية شوارع بيروت، والحكومة قد لا تتشكل.
منذ عقود، ومع حلول زمن الميليشيات، صارت الحروب "حروب تبرير لا تحرير"، والجمهور يعدو وراء الميليشيات، أما الدول والسلطات فتتصدع إلى ما لا نهاية.
(الشرق الأوسط)