ما الذي تغير حتى تغيرت اللهجة الأمريكية بخصوص خطة بتهجير الفلسطينيين التي أعلن عنها دونالد ترامب عشية لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؟ وما الذي جعل عددا من المسؤولين الأمريكيين يتداعون في يوم واحد، وبلغة مختلفة، للحديث عن أن خطة ترامب، غير قابلة للتطبيق، أو لم تجر الإدارة الأمريكية تقييما حول جدواها، أو أنها غير جادة، وأن تطبيقها سيؤدي إلى المزيد من التطرف بالمنطقة، أو أن تطبيقها سيعرض الاتفاق للخطر، ويحول دون إطلاق سراح الرهائن بغزة؟
والحقيقة أن هذه التقييمات التي نقلتها صحيفة "نيويورك تايمز" عن مستشارين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكبار المسؤولين بالإدارة الأمريكية، وللسفير السابق بإسرائيل دان شابيرو، تعبر عن تحول في الموقف، وليس مجرد أصوات معارضة منسوبة للديمقراطيين.
المفارقة، أنه في الوقت الذي تحاول هذه التقييمات مسح خطة ترامب من الطاولة، يسارع المسؤولون الإسرائيليون للتهيؤ للوعود الترامبية، فيكشف وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس بأنه أوعز إلى الجيش بإعداد خطة تتيح لسكان غزة الخروج طوعا، ويحاول الوزير السابق في الأمن الداخلي أن يستغل تصريحات ترامب للضغط على نتنياهو، وأنه لم يعد له أعذار بعد الضوء الأخضر الترامبي بتهجير الفلسطينيين.
ما من شك أن ردود الفعل الدولية كانت حاسمة، ليس فقط العربية، التي تم التعبير عنها سواء بشكل مؤسساتي (الجامعة العربية) أو بشكل قطري (السعودية، قطر، مصر والأردن) وإنما أيضا من الأمين العام للأمم المتحدة، ومن الاتحاد الأوروبي، والصين وروسيا، وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيرلندا وإيطاليا وأستراليا، وتركيا، وأندونيسيا وماليزيا وأفغانستان، والبرازيل.
الذين يتصورون أن ردود الفعل الدولية أجبرت أمريكا على تغيير لهجتها، ينطلقون في الواقع من كون هذه التصريحات جدية، وأن الأمر يتعلق بخطة مدروسة يتم الضغط لتطبيقها، حتى بدأ البعض يتحدث عن تدشين العهد الترامبي الثاني للطور الاستعماري الجديد، وأن هناك ممانعة دولية شديدة لهذه الخطة، لأنها لا تعني فقط احتلال غزة، وإنما تعني نهاية العهود والمواثيق الدولية.
وفي المقابل، ثمة نخب منتصرة للمقاومة، تدفع بحجة اقتناع الإدارة الأمريكية بأن خطة ترامب اصطدمت بتقييم أمريكي لقوة المقاومة، وإمكان إعادة تجربة الفيتنام والصومال والعراق ولأفغانستان بكلفة أكبر، خاصة وأن 15 شهرا من قتال الجيش الإسرائيلي لم تحقق هدفها المركزي في القضاء على حماس، وأنه تكبد خسائر كبيرة، ربما تم الاطلاع على بعض أرقامها فاندفعت لإعادة تقييم الموقف. والحقيقة، أن كلا من حجج القراءة الأولى والثانية ليست ضعيفة، لكن ثمة ثلاثة اعتبارات قوية تجعل من تصريحات ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين مجرد وسائل ضغط لتحقيق أهداف أخرى، وأنها لم تكن مقصودة لذاتها.
لنتذكر أن التأويل الأول الذي ساقه مبعوث ترامب ستيف ويتكوف، أن ترامب لا يقصد احتلال غزة عسكريا، وإنما يتعلق بفكرة قديمة راودت الإدارة الأمريكية، وهو أن غزة لم تعد صالحة بالمطلق للعيش، وأن الفلسطينيين حين سيرون بأنه لا أمل في العيش في غزة المدمرة، سيختارون طوعا الهجرة، فهذا التأويل الذي تكرر حتى من لدن بعض مستشاري ترامب، يعين في تقديم قراءة ثالثة، ترجحها الاعتبارات الثلاثة الآتية:
الأول، يرتبط بشخصية الرئيس الأمريكي ومزاجه، فالبعض، خطأ في التقدير، يرى أن هوسه بالمال والمشاريع الاستثمارية الضخمة، حفزه إلى إنتاج خطته المجنونة، وأن وراء هذا التفكير تقديرا استراتيجيا، يتعلق بثروات طاقية ضخمة يضمها بحر غزة، تستحق أن تبذل في سبيلها أمريكا ثمنا من أجل السيطرة عليها، ولو كان هذا الثمن، يغطي عن صورة المقاومة التي أبدتها حماس لمنع الاحتلال الإسرائيلي من تحقيق أهدافه بغزة، في حين، تغافلوا أن القرار الأمريكي، ليس حكرا على مزاج رئيس، وإنما يتدخل فيه فاعلون كثر، أهمهم مؤسسة البنتاغون، ووكالات الاستخبارات، التي تقدم تقييمات أساسية، في الغالب ما تكون أساسا لاتخاذ القرار الأمني أو العسكري.
والمشكلة، أن هؤلاء، نسوا تماما، وهم ينطلقون من تحليل سيكولوجية الرئيس الأمريكي، أنه يمارس السياسة بمنطق رجل الأعمال، الذي يمارس الضغوط برفع السقوف من أجل إلزام الأطراف التي يخاطبها بالنزول عند مطالبه غير المعلنة، ولعله سلك الطريقة نفسها في الضغط على المكسيك ودول أمريكا اللاتينية (وخاصة كولومبيا) وعلى كندا وبنما وأيضا على الدانمارك، ويمكن أن نقرأ ضمن هذا الاعتبار النتائج الذي حصلت في كل هذه الملفات.
الاعتبار الثاني، أن ما يناقض هذه التصريحات، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضغط بكل قوة من أجل إبرام الصفقة بين حماس والاحتلال الإسرائيلي، وأن مضمون هذا الاتفاق يشمل تبادل الأسرى والبعد الإنساني والإعماري، ومن المؤكد أن فصائل المقاومة الفلسطينية، لن تمضي خطوة واحدة في الجولة الثالثة بدون وقف نهائي للحرب ورفع الحصار، فالصفقة حين ستصل إلى مبادلة أصحاب الرتب العسكرية العليا، فبدون شك فالثمن سيكون عاليا.
مبعوث ترامب ستيف ويتكوف في زيارته لتل أبيب حمل رسالة واضحة إلى إسرائيل بأن للرئيس دونالد ترامب رغبة في تنفيذ وقف إطلاق النار مع حماس بالكامل إلى جانب ضرورة حل الخلافات الأمنية والسياسية، ولم يصدر عنه أي تصريح مخالف، ولم يشر – ولو تلميحا- بأن الاتفاق لن ينفذ في جولاته الثلاث، فقط جديد تصريحه تزامنا مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لواشنطن، الدعوة إلى إعادة النظر في بعض بنود الاتفاق، لاسيما الجولة الثالثة، وأن إعمار غزة في ظرف خمس سنوات غير ممكن. وفي الوقت الذي صرح فيه دونالد ترامب في اللقاء الذي جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه لا ضمانات لديه بأن اتفاق غزة سيصمد، قال مبعوثه إن تنفيذ وقف إطلاق النار في غزة مستمر، والجميع يلتزمون به.
في الواقع، يمكن أن نفسر التشكيك في صمود الاتفاق، وحديث مبعوث ترامب عن ضرورة تعديل الاتفاق في جولته الثانية، بوجود نية ما للعدول عن الصفقة بعد أن تكون إسرائيل، قد كسبت منها الإفراج عن عدد مهم من أسراها ومحتجزيها في الجولة الأولى والثانية، وأن العد العكسي لتنفيذ خطة ترامب، سيبدأ مع انتهاء الجولة الثانية، لكن التحدي المطروح، هو الموقف التفاوضي المتصلب الذي يمكن أن تلجأ إليه فصائل المقاومة الفلسطينية، إذ يمكن أن تكون هذه الإشارات الأمريكية والإسرائيلية، دافعا نحو عدم وضع الجزء الأكبر من بيضها في الجولة الثانية، وتقوية سلاحها التفاوضي في الجولة الثالثة.
الاعتبار الثالث، ويتعلق بالموقف الإسرائيلي نفسه، فالرئيس الأمريكي يدرك أن الرئيس الإسرائيلي جاء لواشنطن وبيده أوراق ابتزاز واضحة، فهو لا يتردد في التهديد بعدم الاستمرار في تنفيذ الاتفاق، وعدم المضي للجولة الثانية، ما لم يصدر عن الرئيس الأمريكي تعهد بالقضاء على حماس، بعد أن فشل جيشه في تحقيق هذه المهمة، ولذلك يغازل ترامب اليمين المتطرف، ويرفع السقف عاليا مقارنة مع تطلعاتهم، فهو لا يريد فقط القضاء على حماس، بل يريد أن لا يبقى في جوار إسرائيل شيء اسمه غزة، بعد أن يذوب الفلسطينيون في الأردن ومصر، ولذلك، تراه يدعي أن مصر والأردن سيقبلان خطته، ليربح بذلك الوقت الذي يمكن من تنفيذ بقية جولات الاتفاق، ولو كان الثمن سقوط حكومة نتنياهو.
هذه الاعتبارات الثلاثة، تفيد بأن غاية تصريحات ترامب هي ممارسة الضغط المزدوج: على إسرائيل حتى لا تتحلل من الاتفاق، وعلى الدول العربية، حتى تنخرط بجدية في رسم سيناريو غزة من دون حماس، وهو التعهد الذي أصدره دونالد ترامب غداة لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي، أما بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف، فهو في ذهن الرئيس الأمريكي بنفس درجة حماس، إذ بقدر ما يهدف إلى التخلص من حماس، فهو لا يبالي بسقوط حكومة نتنياهو، ولا بموقع اليمين المتطرف فيها.
(القدس العربي)