هل التعويم الكامل للجنيه المصري أمام الدولار وسائر العملات الأجنبية سيحل مشكلة الاقتصاد المصري فورا، كما يعتقد بعض الخبراء، أم أن الأمر شديد التعقيد ويتطلب منظومة كاملة من السياسات المختلفة، ورؤية شاملة على المدى القصير والمتوسط والطويل لمعالجة مختلف التشوهات في الاقتصاد المصري؟
هذا سؤال محوري ويتردد كل يوم بطرق مختلفة بين الخبراء والمسؤولين وعلى المنصات والمواقع الاقتصادية المختلفة.
بالطبع صندوق النقد الدولي وسائر منظمات التمويل الدولية توصي دائما بترك العملات لقوى العرض والطلب حتى تتحدد قيمتها الفعلية، لكن هذا التصور أقرب إلى منطق «لا تقربوا الصلاة»؛ لأنه يغفل أن ذلك ينجح إذا كانت كل الظروف والأجواء والأوضاع مواتية، وليست شديدة الاختلال.
أيضا فإن خبراء الاقتصاد حينما يتحدثون في الجانب الفني فقط، فإنهم يوصون دائما بتوحيد سعر الصرف، واعتماد سعر صرف واحد فقط تحدده ظروف وأوضاع السوق، والكلام السابق يعني ببساطة تعويم العملة حتى تتحدد قيمتها على أساس حقيقي في السوق.
وكلام هؤلاء الخبراء صحيح جدا على المستوى النظري، لكن حينما نعرف كامل الصورة نكتشف أن ذلك يصعب تحقيقه من دون شروط موضوعية كاملة، ومن دون معالجة جميع أوجه المنظومة الاقتصادية.
ينسى غالبية الخبراء أن الحكومة المصرية حررت أو عوّمت الجنيه المصري أمام الدولار جزئيا فى ٣ نوفمبر ٢٠١٦، حينما قفز سعره من ثمانية جنيهات إلى ٢٠ جنيها قبل أن يستقر عند متوسط ١٥ جنيهات، وظل فى هذا النطاق مستمرا حتى ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، حينما عوّمت الحكومة الجنيه جزئيا ليقفز إلى حوالى ٢٢ جنيها، ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية فى ٢٤ فبراير ٢٠٢٢، وانسحبت ٢٢ مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المصرية خلال شهر مارس من ٢٠٢٢ بعد أن بدأت البنوك الأمريكية والغربية ترفع سعر الفائدة بوتيرة مستمرة بحيث إنها قفزت من حاجز الصفر لتقارب مستوى ٦٪، وبالتالي هربت الأموال الساخنة من كل الأسواق الناشئة ومنها السوق المصرية بحثًا عن سعر الفائدة المرتفع في البنوك الغربية المستقرة.
بعد هذا التطور كان منطقيا أن يلجأ البنك المركزى المصرى لتعويم جزئي آخر للجنيه أمام الدولار اعتقادًا أن ذلك سيحل المشكلة، وأعقبه أو رافقه رفع سعر الفائدة أكثر من مرة ظنا أن ذلك سوف يدفع حائزي الدولار إلى تحويله إلى الجنيه المصرى وإيداعه فى البنوك المصرية، للحصول على العائد المجزي بعد رفع سعر الفائدة.
لكن المشكلة الحقيقية أن استمرار التعويم مع رفع أسعار الفائدة لم ينجح فى جذب الدولارات سواء من المصريين بالخارج أو الأموال الساخنة، أو الاستثمارات الأجنبية أو المحلية المباشرة إلا بنسب قليلة جدا، لا تتناسب مع المطلوب.
وبالتالي كان منطقيا أن يعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى في مؤتمر الشباب في برج العرب بالإسكندرية في 14 يونيه الماضي، أن هذا الاتجاه تم التوقف عنه (...) وظني أن هذا هو قرار صحيح لأنه لو تم ترك الجنيه محررا ومعوّما بالكامل من دون ضمان وجود دولارات في البنوك لتلبية الطلب المتنامي عليها، فإن أسعار الدولارات قد تقفز إلى معدلات لا يتصورها عقل.
وبالتالي يصبح المنطقي هو النقاش الجاد والفعلى والحكيم حول كيفية توفير الدولارات وضمان وجودها واستمرار تدفقها للسوق، وبعدها أو حتى بالتزامن معها يمكن أن يتم التعويم الكامل أو المدار لكن قبل ذلك فإن الدوامة قد تستمر ويصعد الدولار لمستويات خيالية من دون أن يتوافر فعليا.
السؤال: ما هو الطريق الصحيح لتحقيق ذلك؟ هل تكفي المبادرات الحكومية فقط أم أن الأمر يتطلب أولا استعادة ثقة الناس لتعود إلى ضخ الدولارات في شرايين الاقتصاد المتيبسة؟.
("الشروق") المصرية