الفساد وسبل الإصلاح

"الانتحار حرقًا".. ظاهرة تتفاقم في تونس احتجاجًا على الفقر والظلم!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، أضرم البائع المتجوّل محمد البوعزيزي النّار في جسده احتجاجًا على وضعه الاجتماعي الصّعب وعلى الصّفعة التي تلقاها من موظفة البلدية، لتندلع بسبب ذلك ثورة انتهت برحيل نظام سياسي برمّته. ومنذ ذلك الحين، بات التونسيون يعتمدون هذا الأسلوب كلّما أراد أحدهم الاحتجاج على أمرٍ ما، ولكن السنوات الأخيرة شهدت تزايدًا ملفتًا لحالات الانتحار حرقًا في الشوارع وتحوّلت إلى ما يُشبه الظّاهرة.

على الرَّغم من أن إقدام الشباب التونسي على حرق أجسادهم مردّه أساسًا لفقدان الأمل في تغيير وضعهم الاجتماعي وصعوبة إيجاد فرص عمل تحفظ كرامتهم، ورغبتهم في لفت الأنظار لمأساتهم وتمرير رسائل قوية للجميع ولا سيّما السلطة، إلّا أنّ رسائلهم لا تصل في ظلّ عدم اكتراث الدولة للأمر وذهاب أبواقها لتفسير هذه الحوادث المُفجعة بأنّها مؤامرة ورفضهم الإقرار بأنّ هناك واقعًا اجتماعيًا واقتصاديًا صعبًا جدًّا يُلقي بظلال وخيمة على فئة واسعة من التونسيين.

في الأوّل من فبراير/شباط، استيقظت مدينة سبيطلة من محافظة القصرين (وسط غربي) على وقع حادثة أليمة، ضحيتها طفلة بعمر 13 سنة قامت بإضرام النّار في جسدها داخل المدرسة الإعدادية التي تدرس فيها ما تسبب لها بجروح خطيرة بعد أن نُقلت إلى مستشفى الحروق البليغة بالعاصمة تونس. ولم يتّضح سبب إقدام طفلة في هذا العمر الصغير على هذه الخطوة بعد.

وفي الثالث من فبراير/شباط الجاري، أقدم كهل على سكْب البنزين على جسده وإشعال النار بنفسه داخل مقر المحكمة الابتدائية بمحافظة صفاقس (الجنوب) احتجاجًا على عدم تفاعل موظفي المحكمة مع طلبه في معرفة مآل شكاية تقدّم بها، وقد تمّ إخماد النّار سريعًا، ليتمّ نقله في البداية إلى المستشفى لعلاج جروحه ثم إلى مستشفى الأمراض النفسية.

وفي السادس من الشهر نفسه، سَكَبَ شاب البنزين على نفسه وأشعل النار في جسده مباشرةً بعد دخوله منطقةً للأمن في محافظة سوسة (وسط شرقي) ليموت بعد يوم متأثّرًا بجروحه. وقد تمّ توثيق الحادثة التي أثارت احتجاجات في الجهة ومواجهات بين المواطنين وعناصر الشرطة أُخمدت فيما بعد. وحسب شقيقة الضحية، فقد لجأ أخوها إلى هذا الخيار الصعب بسبب التضييق البوليسي المستمر وتعطيل حصوله على وثائق إثبات الهوية وتعمّد رئيس مركز الأمن إذلاله وافتكاك أمواله كلّما توجّه إليهم من أجل الحصول على بطاقة هويته وذلك على خلفيّة عقوبة سجنيّة قضاها جعلت حياته تتحوّل إلى جحيم ودفعته لأن يقرر إنهاء حياته أمام جلّاده بعد أن أقفل الباب بإحكام على أخته وخالته حتى لا تقوما بمنعه. وبعد مرور يوم واحد على هذه الحادثة وتحديدًا في السابع من فبراير/شباط، أقدم كهل في إحدى محافظات الشمال الغربي على سكْب مادة حارقة على جسده وأضرم النار بنفسه أمام أحد مستشفيات العاصمة ليفارق الحياة في المستشفى من دون أن يتمّ توضيح سبب الوفاة.

وفي الرابع من يناير/كانون الثاني الماضي بالقيروان (وسط غربي)، أقدم شاب على إضرام النّار في جسده أمام المارّة ما تسبب في إصابته بحروق بليغة. وفي العشرين من الشهر نفسه وفي محافظة القيروان نفسها، أحرق شاب نفسه ليتعرّض الى حروق من الدرجة الثالثة. وفي 28 من الشهر نفسه وأيضًا بمحافظة القيروان، أضرمت سيدة النار في جسدها خلف مقر المعتمديّة بسبب عدم حصولها على حقوقها في عملها.

وفي 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أضرم شاب من محافظة تطاوين (جنوب) النّار في جسده ليفارق الحياة بعد نقله للمستشفى متأثرًا بجروحه البليغة. وبعد مرور أربعة أيام وتحديدًا في 22 ديسمبر/كانون الأول الماضي أقدم شاب على حرْق جسده في الشارع بمحافظة القيروان، ليفارق الحياة أيضًا متأثّرًا بجروحه. وفي 29 من الشهر نفسه، قامت امرأة من محافظة بنزرت (شمال شرق) بإضرام النار في جسدها أمام مقرّ عملها في أحد مصانع المدينة احتجاجًا على المظالِم التي تعرّضت لها.

بدأ هذا التكرار لحوادث إضرام النار في الأجساد يُثير جدلًا كبيرًا في تونس في ظلّ تجاهل الدولة للعدد الكبير من هذه الحوادث وعدم توجّهها لوضع رؤية أو استراتيجية لمواجهة استفحال هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة.

وبدل توفير الإحاطة الاجتماعية والنفسية بهذه الفئة، لا تولي السلطات في تونس أيّ أهمية تُذكر لمحاولات الانتحار حرقًا، بل يسارع أبواقها لتجريم الأشخاص الذين أقدموا على هذه الخطوة والتسويق لفكرة أنّها حوادث تُحرّكها أطراف لإثارة الفوضى غير عابئين بالمعطيات والأرقام التي تؤكّد حجم الأزمة الاجتماعية الخانقة في تونس ومعاناة التونسيين من أجل تأمين حياة كريمة. كما ترفض الدولة حتّى مجرّد الانتباه لكوْن أغلب المُقْدِمين على حرْق أنفسهم ينحدرون من محافظات فقيرة جدًّا ومُهمّشة (القسم الغربي للبلاد)، وأنّ الأمر يتطلّب حلولًا عاجلةً وضرورة الإقرار بفشل السلطة الحالية في تأمين حياة كريمة لمواطنيها وأنّ الفقر قد زاد وزادت معه معاناة التونسيين، وبالتالي التوجّه لإيجاد الحلول بدل سياسة الهروب إلى الأمام تمامًا كما فعلت السّلط السابقة.

تجدر الإشارة إلى أنّ تونس تعاني من ارتفاع معدّل التضخم الذي بلغ 6.7 بالمئة وارتفاع أسعار المواد الأساسية ومعدلات البطالة التي تبلغ 16 بالمئة حاليًّا، وقد بات نحو 4 ملايين من السكان يعيشون تحت خط الفقر، حسب معطيات وزارة الشؤون الاجتماعية.

أستاذ علم الاجتماع، المولدي القسومي، قال لـ"عروبة 22" إنّ "ظاهرة إضرام النّار في الجسد بتونس أصبحت طريقةً للتعبير يهدف أصحابها للفت نظر السلطة إلى أنّ الأذى الناجم عن الحنق الاجتماعي قد بلغ حدّه الأقصى. وهذه الطريقة في الاحتجاج ذات منحى سياسي عزّزتها عملية انتحار محمد البوعزيزي التي شكّلت بداية انفجار اجتماعي في تونس في ديسمبر/كانون الأول 2010، والتي كان هدفها توجيه خطاب احتجاجي ضدّ السلطة، واليوم يحاول الشباب المُحْبَط اتباع هذه الخطوة الصعبة والمؤلمة ذاتها على أمل أن تجد صداها لدى السلطة أو تُحدث انفجارًا يؤدّي للتغيير الذي ينشدون، ولكن لا يبدو أن السّلطة في تونس تفهم ذلك".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن