على الرَّغم من المشاركات الرّمزية في هذه الحكومة من قوى سياسية غير "دارفوريّة"، ولكنّها في ظنّي تحالفات مؤقتة لن تصمد كثيرًا، نظرًا لارتباطها بمصالح وصفقات مالية أكثر من كونها تعبيرًا عن مشروع سياسي متماسِك، حيث لن يصمد في الأخير خلف مشروع قائد قوات "الدعم السريع" إلّا هؤلاء المنتمون إلى مشروعه الجِهوي والقبَلي.
هذا الانقسام كان مِعْوَل إضعاف للمكوّن المدني والقوى السياسية السودانية بشكل عام، تحت مظلّة تفاعلات ثورة ديسمبر/كانون الأول السودانية منذ عام 2018 وحتّى اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، بحيث أصرّ الدارفوريّون خصوصًا وقوى ما يُسمّى بالهامش عمومًا، على أن يضمنوا حقوقًا سياسية على أساس عِرقي، وذلك على حساب الوثيقة الدستورية ذات الطابع القومي التي وقّعتها القوى الثورية مع المكوّن العسكري في أغسطس/آب 2019.
الحكومة الموازية من شأنها أن تُعقِّد المشهد السوداني وتُسفر عن امتداد للصّراع العسكري لسنوات مقبلة
في هذا السّياق، موقف رئيس "حزب الأمّة" ذي الطابع القومي تاريخيًا الذي انحاز على أساس قبَلي لقوات "الدّعم السريع" وحكومتها، ليس متفرّدًا، ذلك أنّ وزراء ومستشارين وولاة شاركوا في الحكومات القومية السودانية، ولكنّهم لم يعتبروا ذلك تمثيلًا كافيًا للإقليم الدارفوري أو لهويتهم خصوصًا إذا كانت من أصولٍ زنجية، كما نستطيع أن نلمح راهنًا حالة حبور غير معلن بكلمات ولكنّه ملاحَظ على الوجوه لدى قطاع من النّخب الدارفورية مع كل نصر تُحقّقه قوات "الدّعم السريع" في مناطق الشرق والوسط بالسودان، ليس كتعبير عن انحياز سياسي أو قبَلي فقط، ولكن أيضًا ربما ما يمكن وصفه بحالة رد اعتبار نفسي على الفظائع التي ارتكبها نظام البشير ضدّ الدارفوريين في حرب الصّراع على السلطة مع التّرابي عام 2003، وهي ورقة حاول البشير في أيامه الأخيرة أن يستخدمَها بتحميل الغرب الدارفوري مسؤولية الثورة على نظامه السياسي، ولكنّه قوبل بروح قومية سودانية، حيث تمّ رفع شعار "يا عنصري يا مغرور... كل البلد دارفور"، ولكنّ هذا الشعار لم يكن سوى حالة مؤقتة الأبعاد العِرقية والقبَلية إلى جانب الأسباب السياسية في الصّراع العسكري السوداني، تشير إلى أنّ خطورة الحكومة الموازية من شأنها أن تُعقِّد المشهد السوداني، وتُسفر عن امتداد للصّراع العسكري لسنوات مقبلة وهو تطوّر يدفع إلى التقدير أنّ السودان ذاهب إلى أحد سيناريوَيْن؛ إمّا تشظٍّ كامل في حالة اندلاع صراعات جهوية وقبَلية في مناطق أخرى على التراب الوطني السوداني، أو انقسام إقليم دارفور مع عدم امتلاكه لشروط الاستقرار أيضًا.
تحقيق الجيش لانتصارات عسكرية يمكن أن يفتح الطريق أمام إدراك البرهان ضرورة التسوية السياسية
التساؤل هنا؛ هل يمكن أن ينجوَ السودان من هذه المآلات المفزعة، وعلى من تقع مسؤولية إنقاذه من مصير بائس مؤثّر سلبًا في العرب عمومًا ومصر خصوصًا؟.
في ظنّي أنّ تحقيق الجيش لانتصارات عسكرية خصوصًا في العاصمة، وقدرته على السيطرة على وسط السودان وصولًا إلى حدود كردفان ودارفور، يمكن أن يفتحا الطريق أمام إدراكٍ جديد أمام القادة خصوصًا الفريق عبد الفتاح البرهان، بشأن ضرورة التسوية السياسية، وذلك في ضوء تعقيدات هذا الصّراع على المستوى الاجتماعي والثقافي، وضرورة إنهائه حفظًا لحياة المدنيين السودانيين من ناحية، والحفاظ على كامل التراب الوطني السوداني من ناحية أخرى.
هناك مسؤولية على النّخب الثقافية في نشر ثقافات قبول الآخر والتأكيد على الروابط الاجتماعية بين السودانيين
على أنّ هذه الخطوة لو حدثت من جانب قائد الجيش في هذه المرحلة فلن تكون كافية، فالمطلوب وعيٌ اجتماعيٌ يقود حزمة من التدخلات والمجهودات الأهلية والمدنية الموازية لجهود إنهاء الحرب على المستوى العسكري.
في هذا السّياق، ربما تكون هناك مسؤولية ملقاة على عاتق النّخب الثقافية السودانية، وذلك في إدارة حوارات بشأن التوسّع في نشر ثقافات قبول الآخر، ورفض الاستعلاء العنصري، والتأكيد على الروابط الاجتماعية بين السودانيين، في مقابل سرديّات التقسيم والتهميش والتعالي، بحيث تكون البوابة الكبرى لهذا الأداء هو الاعتراف بالتنوّع العِرقي الثقافي السوداني على النحو الذي مارسته كلّ من المغرب والجزائر مع "الأمازيغ".
إنّ هذه المجهودات في حالة الوعي بها من جانب المثقفين السودانيين والنّخب المستقلة، وكذلك ممارستها، ربما تقود إلى حالة اندماج وطني مطلوب لتأسيس دولة يمكن أن تملك شروط الاستقرار السياسي، وبالتالي تخطو خطوات طال غيابها بشأن تنمية متوازنة ومستدامة.
(خاص "عروبة 22")