الحوكمة والديموقراطية

لماذا فشل التغيير السياسي في العالم العربي؟

على مدى الخمسين عامًا الماضية أو ما يزيد، تبلورت فجْوة بين دعوات الإصلاح الديموقراطي والتنوير الاجتماعي، وبين حجم الإنجاز المتحقّق في هذا الشأن. وتفاوتت أساليب دُعاة الإصلاح والتغيير بين المعارضة السِّلمية من خلال المشاركة في الانتخابات والمجالس التشريعية، وتولّي مناصب سياسية وتنفيذية بهدف التغيير من الداخل، والدعوة من خلال كتابة المقالات وإلقاء المُحاضرات وتنظيم النّدوات والمؤتمرات، والانخراط في الحركات الاجتماعية والانتفاضات الشعبيّة، ولاقت جميعها نصيبًا محدودًا من النّجاح.

لماذا فشل التغيير السياسي في العالم العربي؟

أثبتت النُّظم الحاكمة قَدْرًا كبيرًا من القدرة على المحافظة على جوهرها، والبقاء والاستمرار من دون إدخال تغييرات جوهريّة عليها. أثبتت أيضًا قدرتها على تحويل المعارضين والمنتقدين إلى مشاركين وأنصار، وفي تبنّيها لأشكال المؤسَّسات الديموقراطية كالأحزاب والمجتمع المدني وذلك بعد تفريغها من وظائفها الأساسية.

فكيف نفهم ذلك، وما هي أسبابه؟

لا يمكن الاعتماد على سبب أو عامل واحد، ولا يمكن لأي تيّار فكري أو سياسي الزّعم بأنّ السبب الذي يطرحه هو الحقيقة. هناك إجابات جاهزة ومكرّرة، أبرزها عنف الأنظمة الحاكمة مع لجوئها إلى القوّة لكبح المعارضين وأنصار التغيير. وهو قول مردود عليه، فصحيح أنّ الأنظمة العربية تستخدم العنف، ولكنّها تفعل ذلك بشكل انتقائي، وهناك دول في أميركا اللّاتينية وآسيا استخدمت العنف بشكلٍ أفظع ثُمّ تحوّلت إلى نُظُم ديموقراطية.

استُخدمت القوميّة والاشتراكية لتبرير الاستبداد السياسي وعدم القبول بتعدّد الأحزاب والانتخابات الحرّة

ومنها، أطروحة "النّقص الديموقراطي" أو "المناعة السّلطوية" في الدول العربية، التي تتردّد في كتابات بعض الباحثين وكأنّها قدَر محتوم أو سمة جينية تختص بها المجتمعات العربية. وهذا قول مردود عليه أيضًا من الناحية العلمية، فلا توجد خصوصية أبدية في هذا الشأن. ومن ثمّ، لا بدّ من البحث عن عوامل وأسباب تُفسّر هذه الظاهرة وتعتمد على نتائج البحوث الاجتماعية.

في هذا السّياق، يأتي عامل الثقافة السائدة في المجتمع وتأثيرها في سلوك الناس. وجادل المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، بأنّ كلّ النظم السياسية - ديموقراطية وغير ديموقراطية - تجمع بين أسلوبيْن هما: استخدام القوة والعنف من ناحية، والسيطرة غير المادية على الفكر والوعي وهو ما أسماه بالهيمنة الإيديولوجية، والتي تشمل أنساق القيم والمعتقدات في المجتمع، ومن ثم تسيطر على العقول والقلوب، وتؤثّر في سلوك البشر، فتربطهم بالطبقة المُهيمنة في سياق من القبول والرضاء من ناحية ثانية، مقترحًا أنّ القومية تُعدّ أساسًا لبناء الهيمنة الإيديولوجية. وكان يشير بذلك، إلى خبرة الفاشية الإيطالية والألمانية في فترة ما بين الحربين.

في بلادنا، استُخدمت القوميّة والاشتراكية لتبرير الاستبداد السياسي، وعدم القبول بتعدّد الأحزاب والانتخابات الحرّة. وكان للفكر الدّيني وللتفسيرات الشائعة جماهيريًّا دورها في قبول السلطة المطلقة، والحاكم الذي يقيم العدل استنادًا إلى مبادئ الإسلام. وكانت هناك محاولات للتوفيق بين مفهومَي "الشورى" و"الديموقراطية" ولكنّها لم تنجح بحكم الاختلاف البيِّن في المرجعية الحاكمة لكلّ منهما.

ما زال الانتماء للقبائل والعشائر وللمذهب أو الطائفة له الأولوية على الانتماء الوطني أو الانتماء لهوية الدولة

وهناك عامل ثانٍ يرتبط بنشأة الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي، وذلك باعتبار أنّ هذه الدولة هي ساحة النضال من أجل التغيير السياسي وبناء الديموقراطية، فقد تعرّض مسار هذه الدولة لعقبات جمّة، منها استمرار الولاءات الإثنية والقبلية والمناطقية، وغلبة "الفكر العصبوي" في العديد من بلادنا العربية. فما زال الانتماء للقبائل والعشائر وللمذهب أو الطائفة له الأولوية على الانتماء الوطني أو الانتماء لهوية الدولة. في هذه الحالة، لا يتعامل الناس فيما بينهم كمواطنين في دولة واحدة يخوضون نضالات مشتركة، وإنّما كممثلين لأديان ومذاهب وطوائف وقبائل. وارتبطت الفرص والمزايا المتاحة لهم بهذه الانتماءات والنُظُم المعبّرة عنها، مما أدّى إلى استمرارها ورسوخها.

وفي المقابل، نشأ تحدّي الهويات العابرة للحدود والانتماءات المتجاوزة لهوية الدولة الوطنية، والتي أخّرت أو أضعفت الانتماء للسّاحة التي من المفروض أن يدور فيها هذا النضال، باعتبار أنّ الأولوية هي لبناء الدولة القومية أو الخلافة الإسلامية المنشودة.

ثُم أنّ هناك عاملًا ثالثًا هو غلبة السمة الرَّيعيّة بصورة كاملة أو جزئية، إذ تعتمد أغلب الدول العربية على "الرَّيْعِ"، كمكوّن رئيسي في إجمالي النّاتج القومي للدولة، ويصل أقصاه في الدول التي تعتمد على سلعة أوّلية واحدة كالنّفط في اقتصادها الوطني. يُعطي هذا الوضع للمسيطرين على جهاز الدولة، سلطات أكبر من دون محاسبة أو مراقبة، كما يجعل المؤسَّسات التمثيلية ذات طابع شكلي بخاصة عندما يدعم دورها ثقافة مجتمعية سلطوية وانقسامات مُجتمعية.

جوهر هذه التفسيرات، أن التوجّهات السّلطوية المعادية للديموقراطية ليست قاصرة على مستوى "السلطة"، وإنما توجد أيضًا على مستوى "المجتمع"، وأنّ هناك علاقة تفاعلية إيجابية بينهما. فالسّلطوية على مستوى الحكم، تسنّ القوانين وتنشئ النّظم والأوضاع التي تكفل استمرار السّلطوية على مستوى الثقافة والفكر والانقسام الاجتماعي والطابع الرّيْعي.

المسؤولية الأكبر في تعطيل التغيير السياسي هي على النُّخب الحاكمة

لا أزعم أنّ هذه العوامل الثلاثة هي الوحيدة، وقد يرى آخرون أنّ هناك عوامل أخرى أكثر أهمية. وبالطبع، فإنّ المسؤولية الأكبر في تعطيل التغيير السياسي هي على النُّخب الحاكمة، والتي يجادل أنصارها بأنّ الخبرة قد أثبتت أنّ تراجع دور مؤسّسات الدولة أدّى إلى الاضطراب السياسي، والتمزّق الاجتماعي، ووصول قوى متطرّفة إلى الحكم.

أيًّا كان الأمر، فإنّ السبيل عندي لبدء التغيير في الأجَليْن القصير والمُتوسط هو الاحتكام إلى ثلاثة مبادئ رئيسية:

الأول، هو الحكم الرّشيد الذي يقوم على سيادة القانون والشفافية في تسيير الشؤون العامّة للدولة، ومحاسبة المسؤولين عن نتائج ما يتخذونه من قرارات، وتحقيق العدالة النّاجزة، واتّباع سياسات عامة مدنيّة وعصْرية ومستدامة، تستجيب للاحتياجات المادية وغير المادية للمواطنين، ويتمّ صياغتها بالتشاور مع أصحاب المصلحة.

والثاني، هو الكفاءة في تنفيذ السياسات العامة بمعنى الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية، لتحقيق الأهداف المرجوّة بأقل التكاليف، أي أنّها الأداة الأمثل لتحقيق الأهداف على نحو فعّال.

والثالث، هو احترام حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخصوصًا فيما يتعلق بالمرأة والشباب.

تُمثّل هذه المبادئ الثلاثة الأُسُسَ الضرورية لضمان قدرة أي نظام سياسي على الاستمرار في مسيرة تحقيق متطلّبات التنمية الشاملة المستدامة، ووضع الرّكائز الأساسية لنظام ديموقراطي مُستقر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن