اقتصاد ومال

تنويع الاقتصاد في دول الفائض النّفطي

التنويع الاقتصادي ضرورة مُلحّة للدّول لتقليل اعتمادِها على عدد محدود من الأنشطة الاقتصادية، وبالتالي زيادة قدرتها على الصّمود أمام الصدمات الاقتصادية وتعزيز النّمو المستدام. ترتبط هذه الاستراتيجية عمومًا بالصّادرات، وتهدف إلى تقليل الاعتماد على مجموعة ضيّقة من الصّادرات السلعية، التي تتأثّر بتقلّبات الأسعار والكميات بصورة مُربكة لاقتصاد الدولة المصدّرة.

تنويع الاقتصاد في دول الفائض النّفطي

في مجال الاقتصاد السياسي، يمكن أن يحدث التنويع إمّا من خلال التنويع الأفقي، والذي يتضمّن استكشاف فرص لمنتجات جديدة داخل القطاع نفسه (مثل التعدين أو الطاقة أو الزراعة)، أو التنويع الرّأسي، الذي يتضمّن إضافة قيّمة أو مراحل معالجة إضافية للمدخلات المحلية أو المستوردة.

تبنّت العديد من الدول النّامية التنويع الاقتصادي للحدّ من الآثار السلبية لتقلّبات النّمو والتجارة والبورصات والمناخ

وقد اعتمد الاقتصاد المصري على ريْع المحصول الواحِد لفترات طويلة، إذ كانت صادرات القطن تُمثّل أهم مصادر الدخل القومي. وعمّقت دول الخليج العربي من اعتمادِها على منتجِها الواحد من الوقود الأحفوري خلال صدمتَي النفط في سبعينيّات القرن الماضي. لقد تبنّت العديد من الدول النّامية سياسة التنويع الاقتصادي للحدّ من الآثار السلبية لتقلّبات النّمو والتجارة والبورصات والمناخ... وغيرها من عوامل من شأنها التأثير في المُنتج الطبيعي (الزراعي أو المعدني أو النفطي...) الذي تتركّز فيه مصادر دخل الدولة. وفقًا لمؤسسة الأونكتاد (2021)، قد يستغرق الأمر 190 عامًا من الدول المعتمِدة على سلع محدودة، للحدّ من اعتمادها إلى النّصف مقارنة بالدول ذات التنوّع الاقتصادي.

لقد تحوّلت العديد من الدول النامية تاريخيًّا من الاعتماد على السلع الأولية إلى المنتجات الصناعية. في الستينيّات من القرن الماضي، كانت السلع الأولية تُشكّل حوالى 80% من صادرات الدول النامية، وهي النسبة ذاتها التي تحتلّها اليوم السلع الصناعية من صادرات تلك الدول. فقد تمكّنت دول مثل الصين وكوريا والهند والبرازيل وماليزيا وفيتنام وإندونيسيا والمكسيك من التحوّل بنجاح من الاقتصادات المبنيّة على السلع الأولية إلى قوى صناعية كبرى. وقد اندمجت هذه الدول بعمق في شبكات الإنتاج العالمية عبر مختلف القطاعات، وشاركت بنشاط في التجارة سريعة النمو، وقامت برفع مستوى تعقيد مجموعة صادراتها بشكل كبير.

كذلك، استطاعت دول أميركا اللاتينية تحقيق التنوّع الاقتصادي بأداء مذهل، إذ ارتفعت حصّة المنطقة في سوق المعادن بنسبة 175% خلال الفترة ما بين عامي 1975 و2004، في الوقت الذي تضاعفت خلاله حصّتها من أسواق المنتجات المصنّعة ذات القيمة المضافة بثمانية أمثال!

من بين التحدّيات نموذج الدولة الريعيّة والحاجة المُلحّة لتطوير وتمكين رأس المال البشري

وخلال العقود القليلة الماضية، حقّقت دول مجلس التعاون الخليجي نموًّا اقتصاديًّا ملحوظًا، مدعومًا بتنويع اقتصاداتها، حيث انخفض نصيب النّفط والغاز في النّاتج المحلّي الإجمالي الخليجي من 41% في عام 2000 إلى 33% في عام 2013. ومع ذلك، لا تزال تتصارع مع عوائقَ هيكليّة كبيرة تُعيق جهود التنويع الاقتصادي. من بين هذه التحدّيات نموذج الدولة الريعيّة الذي يعتمد بشكل كبير على عائدات النفط، والحاجة المُلحّة لتطوير وتمكين رأس المال البشري. على الرَّغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي قد جمعت فوائض مالية كبيرة وحافظت على الاستقرار الاقتصادي والسياسي، إلّا أنّ انخفاض أسعار النفط (خصوصًا أثناء الجائحة) كشف عن نقاط الضعف الهيكلية لاقتصاداتها.

في أحدث تقرير لمؤشِّر التنويع الاقتصادي، حافظت الولايات المتحدة والصين وألمانيا على مواقعها كأكثر الاقتصادات تنوّعًا، كما استحوذت الدول ذات الدخل المرتفع على 25 من أفضل 30 مركزًا في عام 2023. وأكملت القائمة أربع دول ذات دخل فوق المتوسط (الصين والمكسيك وتايلاند وتركيا) ودولة واحدة ذات دخل منخفض (الهند، التي حلّت في المرتبة العشرين عالميًا).

من بين الأقاليم الثمانية التي يغطيها المؤشّر، كانت أوروبا الغربية ومنطقة شرق آسيا والمحيط الهادي وجنوب آسيا، هي الوحيدة التي تحسَّن أداؤها في مؤشر التنويع الاقتصادي عن نظيره قبل الجائحة. كذلك، أظهرت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقدّمًا كبيرًا، حيث خفّضت حصّتها في المراتب العشرين الأخيرة من المؤشر من 25% في عام 2000 إلى 15% في عام 2023. ويمكن أن يُعزى تحسّن نتائج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى وتيرة الإصلاحات الهيكلية المتسارعة، وجهود التنويع التي قامت بها دول مجلس التعاون الخليجي. في المقابل، زادت دول أفريقيا جنوب الصحراء من تمثيلها في أدنى 20 تصنيفًا، من حوالى 45% في عام 2000 إلى 70% في عام 2023.

أدخلت دول مجلس التعاون الخليجي عدّة إصلاحات لتعزيز الأنشطة غير النفطية

تُظهر نتائج مؤشر التنويع الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي أنّ الإمارات العربية المتحدة تفوّقت باستمرار على الدول الأخرى في المنطقة خلال الفترة من 2020 إلى 2023، على الرَّغم من أنها لم تصل إلى مستوياتها قبل الجائحة في عام 2019. كما لوحظت أكبر زيادات في نتائج المؤشّر خلال الفترة من 2000 إلى 2003 في سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية. والجدير بالذكر أنّ نتائج مؤشر التنويع الاقتصادي لعُمان وقطر قد تحسّنت في الفترة من 2020 إلى 2023 مقارنةً بمستويات ما قبل الجائحة، حيث جاءت معظم المكاسب نتيجة زيادات في مؤشرات التجارة الفرعية. وبينما كانت السعودية تُصنَّف ضمن أدنى 30 دولة تنوّعًا قبل حوالى عشر سنوات فقط، فقد حققت تقدّمًا كبيرًا في التنويع التجاري والإيرادات.

في السنوات التي تلت الجائحة، أدخلت دول مجلس التعاون الخليجي عدّة إصلاحات لتعزيز الأنشطة غير النفطية، بأداء متباين بين دول المجلس. وقد شملت تلك الإصلاحات تقديم السعودية لمدوّنة استثمار جديدة، ومبادرات الخصخصة في الإمارات وعُمان، وتحسينات في البيئات التنظيميّة والتجاريّة، وإصلاحات شاملة في سوق العمل، وتعزيز مشاركة المرأة في القوى العاملة، وتشجيع التوظيف في القطاع الخاص. كما شهدت قطر نموًّا في صادرات الخدمات، لا سيما في قطاعَي النّقل والسياحة. وبحلول عام 2023، كانت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية قد احتلّتا موقعيْن بارزيْن في تجارة الخدمات التجارية إقليميًّا وعالميّا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن