بصمات

الطاغية السياسي والدّين والتديّن الشعبي: الرّقابات المتبادلة (2/2)

في دول ما بعد الاستقلال، تبدو مسائل الاستبداد والتسلّطية والشرْعنة الدينيّة الوضعية لأفعال السيطرة والعنف المادي والرمزي سياسيًا وقانونيًا وقمعيًا، وكأنّها تدور في مدارات المتاهة التي لا خروج منها! إلّا أنّ إمعان النظر في شبكات السلطة وعلاقاتها، والصراع على الدّين وبه من السلطة وممارساتها القمعية للمعارضين لها، يكشف عن تناقضات في تفكير وسلوك الممارسين للقمع من أجهزتِها القمعية واستخدامهم للدّين لتبرير سلوكهم، ومحاولاتهم بناء توازن نفسي ما، غير أنّ ذلك يؤدي إلى أنّ العقل الأمني القمعي وأفعاله العنيفة التي يمارسها كسلوك تعذيبي - سوريا والعراق والسودان في عهد جعفر النّميري وعمر البشير - يُنتج داخل خلاياه مسوّغاته وتبريراته الدينية السلفية النقلية، لسلوكه القمعي في مواجهة المعارضين للسلطة، والمقبوض عليهم أو المعتقلين ومن صدرت عليهم أحكام قضائية من محاكم استثنائية غير مستقلة وتابعة.

الطاغية السياسي والدّين والتديّن الشعبي: الرّقابات المتبادلة (2/2)

من ثمّ يبدو الصّراع داخل التركيبة النفسية للقامع والمقموع معًا عبر تديّن سلفي، بين أفعال القمع باسم السلطة/التأويل والتبرير الديني، على المقموع الذي يرفع لواء المعارضة، والمناهضة للسلطة وأتباعها باسم الدّين، ولا يملك المحكومون الخاضعون سوى بعض المعارضة الرّمزية عبر الأدعية الدينية المتواصلة على الحاكم من خلال الترميز، وطالبين السّند من السماء لخلعه او موته!

السلطة والفواعل السياسية الدينية وتأويلاتها يتصارعون للسيطرة على الجموع الغفيرة من المحكومين

الاستبداد الطغياني، والتسلطيّة السياسية المشرْعنة بالتأويل الدّيني الوضعي تنتج مقاوماتها باسم الدين، وتتنازع وتتصارع على ملكية أو حيازة الدّين وتأويلاته الوضعيّة لتبرير سياسة القمع والتعذيب ومقاومتها باسمه. الأهمّ أنّ السلطة والفواعل السياسية الدينية وتأويلاتها يتصارعون للسيطرة على الجموع الغفيرة من المحكومين، - من الطبقات الوسطى، والصغيرة، والعمال والفلاحين والبدو، وتركيباتهم المذهبية والعرقية والقبائلية والعشائرية والعائلية الممتدّة في عالمنا العربي ومجتمعاته الانقسامية - على نحو يؤدّي إلى إنتاج الصّراعات التأويلية للدّين والمقدّس والسنوي والسرديّات التاريخية حولها، وأيضًا التداخل فيما بينها من حيث التبريرات النقليّة لسلوكهم السياسي في مواجهة بعضِهم بعضًا.

يُلاحظ أنّ السياجات السلطوية الدينية والقمعية على الجماعات الإسلامية السياسية والمذهبية، أدّت في ظل الرقابات السلطوية والأمنية في بعض البلدان العربية إلى توظيف الأعياد والموالد والطقوس الدينية اليومية في التعبئة والحشد الناعم للجموع بعيدًا عن السياسة شكلًا، وفي جوهرها عمل تعبوي يرمي للتجنيد وتوسيع قواعد العضوية داخلها، وِفق معاييرها الصارمة في هذا الصدد.

تسود تبريرات المحكومين واللغة الدّينية الشعبية الموروثة والخشبية في تبرير الرشى وخرق القوانين

في ظل الصّراعات التأويلية التي ترمي للسيطرة على الدّين، والتديّن الشعبي الوضعي وتأويلاته في الصّراع بين السلطة الغاشمة، ومعارضاتها الدينية، يبدو المحكومون أسرى بين حدّي العقل السلطوي والمعارِض، في هذه السياقات تبدو بعض المقاومات من أسفل مصدرها فوائض التديّن الشعبي وموروثاته الأسطورية والعادات والتقاليد والمرويّات... إلخ، وأيضًا في إنتاج الازدواجيّات والمخاتلات مع أطراف الصراع على الدّين بين السلطة ومعارضيها من الجماعات السياسية الإسلامية والراديكالية والسلفيّات الجهادية. من ثمّ تسود تبريرات المحكومين الخاضعين لسلوكيّاتهم الجانحة عن الصّراط الدّيني المستقيم، وعن قوانين الدولة، وأنظمتها الإدارية وأوامرها ونواهيها واستدعاء الله - جلَّ جلالُه - والاستنجاد بقدراته المطلقة كلّ وفق طريقته أو عبر الأدعية، واللغة الدّينية الشعبية الموروثة والخشبية وفق التعبير الفرنسي الشائع، وذلك في تبرير الرشى، وخرق القوانين، والنظام العام والآداب العامة وفق تفسيراتهما السلطوية المتغيّرة وفي مصالح الطبقة الحاكمة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن