تقدير موقف

العرب ووَهْم السلام!

اتُّهِم العرب عامّة والفلسطينيّون خاصّة، بأنّهم لا يرغبون في إقامة السلام مع "دولة إسرائيل" وأنّ هدفهم هو إزالة هذا الكِيان "الديموقراطيّ المسالِم" من الوجود. صحيح أنّ العرب رفضوا الاعتراف بقرار الجمعية العامّة التابعة لهيئة الأمم المتحدة الرقم 181، كما رفضوا دعوة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عام 1965 إلى الاعتراف بالتقسيم، إلّا أنّهم اعترفوا بقرارَي الأمم المتحدة 242 و338، وبلغ الأمر أقصاه عندما وقّع الرئيس المصريّ أنور السادات اتفاقيّة كامب ديفيد، على الرَّغم ممّا تضمّنته من حيْف تجاه الحقوق العربيّة والفلسطينيّة، وبعد تردّد وممانعة فرضتها وقائع وظروف سياسية مختلفة، رَكِبَ العرب والفلسطينيّون موجةَ التسوية السياسيّة بشكل رسميّ وعلنيّ، وذلك منذ مؤتمر مدريد سنة 1991 تحت شعار "الأرض مقابل السلام".

العرب ووَهْم السلام!

صحيحٌ أنّ مؤتمر مدريد لم يتمكّن من تحقيق الأهداف التي كان العرب يرغبون في تحقيقها، إلّا أنّه مهّد الطريق لمنظّمة التحرير ودولة إسرائيل للتوقيع على اتفاقيّات "أوسلو" سنة 1993، التي أقرّت بحقّ الفلسطينيّين في تأسيس دولة، ولكن بشروط إسرائيليّة - في الواقع وُصفت بالسّلطة وليس بالدولة - كما اصطدمت المفاوضات بين الطرفيْن حول تجسيد ما اتُّفِق عليه بإرادة إسرائيليّة معاكِسة لروح أوسلو. ثم التوقيع على اتفاقيّة "وادي عربة" بين النظام الأردني ثم تبنّى العرب مبادرة الملك السعودي للسلام في "قمة بيروت" عام 2002 التي كانت للأسف محلّ تندّر واستهزاء من قِبَلِ إسرائيل، وصولًا إلى توقيع معاهدة "اتفاقيّات إبراهيم". فماذا كانت النتيجة؟

استخدمت إسرائيل كلّ الوسائل بهدف عرقلة الوصول إلى حلّ يعترف بالحدّ الأدنى من حقوق الشعب الفلسطينيّ

لم تنسحب إسرائيل من الضفّة الغربيّة، كما تقرّر في اتفاقيّة "واي بلانتايشن" (1998)، كما لم تفِ بوعدها بفتح الممرَّين الآمنَيْن اللذيْن يصلان بين قطاع غزّة والضفّة الغربيّة حسب اتفاقات شرم الشيخ (1999)، تمامًا مثلما كان مصير بقيّة الاتفاقيات التي حصلت برعاية أميركيّة - أوروبيّة مثل قمّة "كامب ديفيد" (2000) و"خريطة الطريق" (2002)، التي حدّدت فترة ثلاث سنوات لقيام الدولة الفلسطينيّة التي لم ترَ النور لحدّ الآن.

استمرّت إسرائيل في شنّ الحروب على سكّان غزّة ولبنان والضفّة الغربيّة ومحاصرة الشعب الفلسطينيّ وقضم 42 ‎%‎من مساحة الضفة، بل سيطرت على 87 ‎%‎من موارد مياهها و90 ‎%‎من غاباتها و49 ‎%‎من طرقاتها، فضلًا عن طرد آلاف الفلسطينيين من مساكنهم، وإقامة 49 ‎%‎من المستوطنات على أراضٍ فلسطينية خاصّة، وضمّت القدس الشرقية إليها، كما استولت على الكثير من عقاراتِها، وشرّدت أهلها، وحوّلت غزّة إلى سجن كبير وصولًا إلى تدميرها وإبادة جزء من سكانها، كما أجبرت أكثر من 12 ألف فلسطيني من سكّان الضفة الغربية على النّزوح قسرًا، بالتهديد والترهيب إلى المدينة والضواحي والقرى.

احتلال أجزاء من التّراب السوري واللبناني بالقوّة يؤكّد رغبة إسرائيل في محاصَرة كلّ ما كان يُعرف ببلدان الطوق

استمرّت إسرائيل في استخدام كلّ الوسائل وخلق الوقائع الجديدة بهدف عرقلة الوصول إلى حلّ يعترف بالحدّ الأدنى من حقوق الشعب الفلسطينيّ، كما حدّدته قرارات الأمم المتّحدة أو بنود الاتفاقيّات المختلفة الموقّعة بين الجانبين الفلسطينيّ والإسرائيليّ. وعلى الرَّغم من ذلك، ظلّ أمل قطاع واسع من القيادات الفلسطينيّة في إمكانيّة تطبيق ما تمّ الاتفاق عليه.

قد يكون من حقّ تلك القيادات أن تتشبّث بأيّ أمل، وتراهن على متغيّرات قد تأتي من هنا أو هناك، لكن ليس من حقّها أن تترك شعبها يعيش على آمال واهية أو على سراب خادع، بل كان عليها أن تواجه الحقائق وتتعامل معها برؤية واضحة. ومن أولى هذه الحقائق التي كان عليها إدراكها هي أنّ إسرائيل غير جاهزة للسّلام وهذا أمرٌ لا يقول به بعض العرب فحسب، بل يؤكّده الإسرائيليّون بمختلف توجّهاتهم وتيّاراتهم ناهيك عن الوقائع اليوميّة الدالّة على ذلك.

استغلّت إسرائيل التشتّت الفلسطينّي والسلام لم يَعُد يعنيها

الحقيقة الثابتة، كما عبّر عنها وزير الخارجيّة الإسرائيليّ السابق شلومو بن عامي، هي أنّ "النظام السياسيّ الإسرائيليّ غير قادر تمامًا على التوصّل إلى تسوية مع الفلسطينيّين"، باعتبار أنّ القيادات الإسرائيليّة الصهيونيّة بمختلف مشاربها تعتقد أنّ "النزاع" اليهوديّ - العربيّ هو نزاعٌ غير قابل للحلّ على المدى الزمنيّ المنظور، لذلك فإنّ هدفَها هو إدارة الصراع وليس حلّه، وما حققته مؤخّرًا من احتلال أجزاء من التّراب السوري واللبناني بالقوّة وسعيِها بكل الطرق لتهجير أو ترحيل سكان غزّة، بل حتّى جزء من سكان الضفة، يؤكّد مجدّدًا رغبتها في محاصَرة كلّ ما كان يُعرف ببلدان الطوق، وفرض الأمر الواقع باعتبار ما تملك من قوّة وبطش، وبدعم مُطلق من الولايات المتحدة الأميركية وجزء هام من دول الاتحاد الأوروبي، ضاربةً عرض الحائط كل دعوات السلام العربية والدولية، ومن دون اعتبار القرارات الأممية.

استغلّت إسرائيل أيضًا التشتّت الفلسطينّي وعدم قدرة المنظّمات السياسية الفلسطينيّة على تجسيد برنامج الحدّ الأدنى السياسي، الذي أُقِرّ مؤخّرًا في الصين لمواجهة المشاريع الصهيونية، الأمر الذي سيساهم في دعم القدرة السياسية والديبلوماسية للدولة الصهيونية للمزيد من التوسّع ومواصلة مشروعها نحو ضمّ أكثر ما يمكن من أراضي الضفة الغربية وربّما القطاع نفسه بشكل مباشر أو غير مباشر، ومضاعفة محاصرة الدول العربية المحيطة، بما يُفيد أنّ السلام لم يَعُد يعنيها كثيرًا، على خلفية ما أصبح عليه حال الفلسطينيّين والعرب عامة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن