تشير إحصاءات حديثة إلى أنّ الاستثمارات في قطاع الطاقة العربي ناهزت 880 مليار دولار في السنوات الأخيرة، إذ يساهم هذا القطاع بنسب ضخمة من النّاتج المحلي الإجمالي تصل إلى 50 في المئة في بعض البلدان. وتعمل دول مثل المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، والكويت، وجمهورية مصر العربية، لتطوير مشاريع ضخمة في مجالات النّفط والغاز والطاقة المتجدّدة، ما يعكس حجم الاهتمام والتزام هذه الدول بتحقيق تكامل اقتصادي وطاقة مستدامة.
يُعَدّ التعاون الإقليمي في مجال الطاقة حجر الزاوية لاستقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية في المنطقة، وتؤدّي الشراكات الإقليمية إلى تعزيز الثقة بين الدول، وتساعد على تجاوز الحواجز التقليدية والمنافسات القديمة. وبفضل تبادل الخبرات والتّكنولوجيا، أصبح بالإمكان تحسين كفاءة الإنتاج وزيادة معدّلات الاستهلاك المحلي، ما يدعم النموّ الشامل ويولّد فرص عمل جديدة.
المشاريع المشتركة في قطاع الطاقة تمثّل تجسيدًا لنهج التكامل الاقتصادي والتنموي بين بلدان المنطقة
تشهد مشاريع النّفط والغاز في الشّرق الأوسط استثمارات تصل في بعض الأحيان إلى 200 مليار دولار في المشاريع الكبرى، إذ لا تقتصر هذه الاستثمارات على تطوير البنية التحتية فقط، بل تشمل أيضًا تحسين التقنيات الحديثة في استخراج النفط وتكريره، وتطبيق أحدث الابتكارات في مجالات الطاقة المتجدّدة. هذا التحوّل في نهج الاستثمار يعكس وعي المنطقة بأهمية التنوّع الطاقوي والتحوّل نحو مصادر طاقة أكثر استدامة.
تُمثّل المشاريع المشتركة في قطاع الطاقة تجسيدًا لنهج التكامل الاقتصادي والتنموي بين بلدان المنطقة. فقد أُطلِقت مبادرات تجمع بين عدّة بلدان لتطوير حقول نفطية وغازية مشتركة، ما يساهم في تقليل التكاليف التشغيلية وزيادة العوائد الاقتصادية. مثلًا، هناك مشاريع مشتركة بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تهدف إلى تحسين تقنيات الاستخراج وتقليل الهدر، وأسفرت عن زيادة الإنتاج بنسبة تصل إلى 15 في المئة خلال السنوات الأخيرة. وفي السياق ذاته، تتشارك دول في شمال أفريقيا مثل جمهورية مصر العربية وليبيا والجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية مع دول الخليج في تبادل المعرفة والخبرات التقنية، بحيث أُطلِق مشروع مشترك للطاقة الشمسية بين القاهرة وأبو ظبي بقيمة استثمارية تُقدّر بنحو 10 مليارات دولار، يُعتبَر نموذجًا يُحتذَى به في مجال التحوّل الطاقوي.
إنّ المزايا التي تعود على البلدان المشاركة في مشاريع الطاقة المشتركة، متعدّدة الأبعاد فهي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتدّ إلى المجالات التقنية والبيئية والاجتماعية.
من الناحية الاقتصادية، تُفضي هذه المشاريع إلى تحفيز النموّ من خلال توليد فرص عمل جديدة واستقطاب استثمارات أجنبية، كما تعمل لرفع معدّلات النموّ الاقتصادي بمعدّل سنوي قد يتجاوز خمسة في المئة في بعض الحالات.
شراكة الحكومات مع شركات عالمية وخبراء محليين تتيح تبادُل أفضل الممارسات وتطبيق أحدث التقنيات
أمّا من النّاحية التقنية، فيؤدّي تبادل الخبرات والتّكنولوجيا بين البلدان إلى تحسين الأداء الكلّي للقطاع، إذ ساهم استخدام تقنيات الحفر الأفقي والتكسير الهيدروليكي في زيادة الإنتاجيّة بنسبة تصل إلى 20 في المئة، بينما أدّت تطبيقات الذّكاء الاصطناعي والرّقمنة في عمليات المراقبة والصيانة إلى خفض التكاليف التشغيلية بنسبة تقارب 15 في المئة.
على الصعيد البيئي، يساهم تبنّي مشاريع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرّياح في خفض الانبعاثات الكربونية وتحسين جودة الهواء، ولهذه المبادرات المشتركة دور في تقليل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بنسبة تصل إلى 25 في المئة في بعض المناطق، بما يتماشى مع الأهداف العالمية لمكافحة التغيّر المناخي. كذلك يشكّل الاستثمار في الطاقة النظيفة خطوة استراتيجية بارزة نحو تحقيق استقلالية طاقوية تقلّل من الاعتماد على الوقود الأحفوري وتقلّبات أسعاره.
ولعلّ أحد أهم عوامل نجاح هذه المشاريع هو التعاون الفاعل بين القطاعَيْن العام والخاص، إذ إنّ شراكة الحكومات مع شركات عالمية وخبراء محليين تتيح تبادُل أفضل الممارسات وتطبيق أحدث التقنيات. وتُفضي هذه الشراكات إلى توقيع اتفاقيات استراتيجية تعزّز من نقل التّكنولوجيا وتطوير البنية التحتية، ما يساهم في تحقيق نتائج ملموسة تتجاوز التوقّعات الأولية. وفي هذا السّياق، أصبحت آليات التمويل المبتكرة مثل الصكوك والتمويل الإسلامي من الأدوات الرئيسية لتوفير رأس المال اللازم، ويُتوقَّع أن تساهم هذه الآليات في زيادة الاستثمارات بنسب تتراوح ما بين 10 و20 في المئة.
الاستثمار في رأس المال البشري هو ركيزة أساسية لنجاح المشاريع
وعلى الرَّغم من النجاحات الباهرة التي تحققها مشاريع الطاقة المشتركة، لا تخلو الطريق من تحدّيات. من أبرز العقبات التي تواجه هذه المبادرات، التباين في السياسات الاقتصادية والبيئية بين الدول، إضافة إلى مسائل الشفافيّة والحوْكمة التي قد تؤخّر تنفيذ بعض المشاريع. وفي ظلّ هذه التحديات، تصبح الحاجة مُلحّة لوضع توصيات استراتيجية تهدف إلى تعزيز التنسيق وتوحيد الأطُر التنظيمية بين الدول. من أهمّ هذه التوصيات ضرورة إنشاء منصّات إقليمية لتبادُل البيانات التقنية، وتخصيص ما بين 3 و5 في المئة من النّاتج المحلي الإجمالي للاستثمار في مشاريع الطاقة المشتركة، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات تعاون تكنولوجي مع شركات رائدة عالميّا.
كذلك، تُظهر التجارب الناجحة من عدّة بلدان مدى إمكانية تحقيق التكامل الاقتصادي والتنموي من خلال تبنّي سياسات مُوحّدة. مثلًا، استطاعت الإمارات العربية المتحدة تحقيق توازن بين إنتاج النفط والاستثمار في مشاريع الطاقة المتجدّدة، ما جعلها تتصدّر قائمة البلدان الأكثر استدامة في هذا القطاع. كذلك، يساهم تطوير البنية التحتية للطاقة، بما في ذلك شبكات النقل والتوزيع وأنظمة التخزين الحديثة، في خفض معدلات الفاقِد بنسبة تصل إلى 10 في المئة وتحسين كفاءة الخدمات المقدّمة إلى المستهلكين. وهذا كلّه يؤكّد على أهمية التخطيط المستقبلي والاستثمار في القطاعات الأساسية لدعم النموّ الاقتصادي.
التحوّل الرّقمي يمثّل عاملًا حيويًّا في إعادة تشكيل مستقبل قطاع الطاقة
ولا يقلّ الاستثمار في رأس المال البشري أهمّية، بل هو ركيزة أساسية لنجاح هذه المشاريع، فالتدريب والتأهيل المستمرّان للكفاءات الوطنية يضمنان نقل الخبرات وتطوير مهارات العاملين التقنية والإدارية. لقد بدأت العديد من الجامعات والمؤسَّسات التعليمية في المنطقة تطوير برامج دراسات عليا متخصّصة في مجالات الطاقة، تُركّز على أحدث التقنيات والابتكارات. ومن خلال هذه البرامج، دُرِّبَ أكثر من 20 ألف تقني وإداري خلال السنوات الثلاث الماضية، ما يساهم في رفع مستوى الأداء وتحقيق نتائج أفضل في المشاريع المشتركة.
في ظلّ التنافس العالمي المتزايد، بات التحول الرّقمي يُمثّل عاملًا حيويًّا في إعادة تشكيل مستقبل قطاع الطاقة. فقد ساهم استخدام تقنيات تحليل البيانات الكبيرة والذّكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في تحسين الأداء التشغيلي وتقليل الأعطال التقنيّة بنسبة تصل إلى 40 في المئة، ما أدى إلى زيادة الكفاءة التشغيلية بنسبة تُقارب 25 في المئة. وهذا التحوّل لا يقتصر على الجانب التقني فقط، بل يمتدّ ليشمل أيضًا تحسين تجربة العملاء وتعزيز الشفافية في العمليات الإدارية والمالية.
(خاص "عروبة 22")