لم تعد مقولة "الصراع العربي الإسرائيلي" تسمح بتأطير الحاصل بين إسرائيل وبين العرب. هذا منذ سنوات طويلة. سابقة على كل الكؤوس المرّة والمريرة المتواصلة منذ عام ونصف العام من تدمير قطاع غزة إلى استباحة مخيمات الضفّة إلى انقضاض الشرّ على جنوب لبنان وبقاعه وضاحية بيروت، إلى المجون الإسرائيلي في جنوب سوريا.
في المقابل، لم يظهر أن "الصراع العربي الإسرائيلي" – الذي تهافت كمقولة قادرة على أن تعني شيئاً ما له قيمة معرفية أو سياسية حين تدرج كل هذه المحطات الكارثية تحت جناحها – قد ورثه على نحو متماسك ومقنع أي تأطير للصراع بديل عنه، على شاكلة "الصراع الإيراني الإسرائيلي" المتخيّل. فإيران الخمينية صحيح أنها أعملت القطيعة مع ماضي اعتراف نظام الشاه بإسرائيل وعلاقاته الدبلوماسية والتنسيقية معها. لكنها طرحت نفسها بعد الثورة وصية على الصراع العربي الإسرائيلي أكثر منها منشئة لنمط من الصراع جديد.
فهي من ناحية، انتقلت بعد الثورة الإسلامية من الاعتراف بإسرائيل إلى الرفض القاطع والنهائي لوجودها، والتشديد في الليل والنهار أن وجودها هذا لن يطول. وهي من ناحية ثانية، بعودتها إلى هذه الجذرية الأولى في تناول الصراع أوجدت لنفسها سبباً لمشكلة مزمنة مع العرب. لأن العرب أرادوا، ومنذ أواخر أيام جمال عبد الناصر، تسوية شاملة على قاعدة العودة إلى حدود الرابع من يونيو 1967. تحقق ذلك، من ضمن ترتيبات، في حال شبه جزيرة سيناء فقط، وفقط حين سار أنور السادات بالحل المصري المنفرد.
إيران وقفت ضد مقال التسوية من ألفه إلى يائه. حتى نظام الأسد لم يسلم من كلمات المرشد خامنئي اللاذعة في اللحظة التي كان يحكي فيها عند تقدم في مفاوضاته – بخصوص الانسحاب من هضبة الجولان – مع إسرائيل. رعت إيران، كذلك الأمر، مسلك الاستخفاف بتجربة الحروب النظامية العربية مع إسرائيل، لصالح الترويج لفكرة أن ما لم تتمكن من تحقيقه الجيوش النظامية سيكون الفلاح فيه من نصيب الفصائل الموازية للدولة، والامتدادية لامبراطورية الحرس الثوري الإيراني.
في مطلع الثمانينيات، كان الاصطدام لسنوات طويلة بين إيران وبين نظام صدام حسين، الرافض هو الآخر وإلى حد بعيد لفكرة التسوية مع إسرائيل. في المقابل، وجدت إيران في النظام السوري صديقها الأقرب بين العرب، رغم انخراطه في عملية السلام، بدءاً من مؤتمر مدريد. لا بل أن النظام الأخير استطاع الاستثمار في "حزب الله" الموالي لإيران في لبنان بقصد تحسين شروطه في تلك المفاوضات.
إيران ما كانت لتمانع طالما أن التسوية بين إسرائيل وسوريا ما كانت أنجزت بعد. لكن، ما حصل طيلة التسعينيات من القرن الماضي لا يعدم غرابة. رعاية كل من نظام حافظ الأسد والجمهورية الإسلامية لمقاومة "حزب الله" من منطلقين مختلفين: الأول للإقلاع بعملية التسوية، والثاني لفرطها. لقد عملت إيران على فرط التسوية، لكن هل اجترحت أفقاً آخر للصراع؟ إن هو إلا الترويج لفكرة أن حرب الأنظمة فاشلة، وحرب الفصائل ناجحة. وهي فكرة يفترض أن اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 أتى عليها. ك
ما أنها فكرة تتغافل على الطبيعة المزدوجة للنظام الثيوقراطي في إيران. فهو "نظام" أيضاً، مثلما هو "فصيل". منذ ما سيصبح قريباً نصف قرن، لم تطرح إيران الخمينية أي تصور استراتيجي لكيفية خوض الصراع مع إسرائيل. اكتفت عملياً بإغداق الملامات على الأنظمة العربية، وأحياناً على الشعوب. أو بالربط بين زوال إسرائيل وبين وعود الخلاص الرؤيوي. أو بالاتكال على عوامل التعرية المقدّر عنها "طبيعية" ومحتومة بالنسبة للمجتمعات الانتقالية. في الواقع، والى حد كبير، بقيت إسرائيل والصراع معها، من الأشياء "اللامفكر بها" في إيران. من الأشياء التي تجري محاولة التقاطها بالحدس والإلهام، أو إحالتها للرجاء فقط.
في المقابل، استثمرت إيران طويلاً بانسداد أفق التسوية بين إسرائيل والعرب، هذا الانسداد الذي يتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى الراعي الأمريكي لعملية السلام. مثلما استثمرت إيران بالمتاح لها من بعد احتلال أمريكا للعراق وإسقاطها لنظام صدام حسين. أما الأنظمة العربية فانقسمت إلى صنفين. قسم يتصرف على أساس أنه لم تنفع معادلة الأرض مقابل السلام، إذاً فلنكتف بالسلام ناقص الأرض. وقسم لا يزال يمني النفس انشائياً بإحياء فكرة "السلام العادل" من دون أن يدري أحد ما هو المفتاح إلى مثل هذا.
أما التيارات والقوى العربية المناهضة لأساس فكرة السلام مع إسرائيل فهذه دخلت في محنة مزدوجة بعد 7 أكتوبر والحربين التاليتين له: فخيار تقويض إسرائيل بالكفاح المسلح جاءت كلفته مهولة، ومردوده ضئيل، إنما وفي المقلب الآخر فقد أظهرت الحربان آلة عدوانية تقيم بين شعوب المنطقة وليس من السهل تخيل كيفية التعايش بهدوء معها، وليس من الجدية تفسير ما قامت به هذه الآلة على أنه راجع فقط إلى نتيجة استثارتها.
لقد تجاوزت إسرائيل الصراع العربي الإسرائيلي ثم زمن الوصاية الإيرانية عليه. ومضت أكثر من أي وقت مضى إلى مرحلة صارت مقولة "الصراع" معها، مثلما هي مقولة "السلام" معها، من الصيغ التي ينخرها الصدأ. مع ذلك، تجد اليوم من لا يزال يمني النفس بإعادة تأهيل فكرة الصراع معها، ومن يرغب في المقابل أو يراهن على السلام معها. المتغير؟ إن الذين يتحمسون لإعادة الترويج لمقولة السلام اليوم ينطلقون من حيث توقفت مبادرة جاريد كوشنير: أي أنه سلام غير مشروط باسترجاع الأراضي. أما الذين يصرّون على ديمومة الصراع فقد أضحى عندهم صراعاً ميثولوجياً أكثر منه سياسياً وعسكرياً – خاصة في أعقاب الحربين الأخيرتين.
أي أننا بين فئة تنادي بالسلام مقابل لا شيء، وبين فئة تنادي بالصراع الدائم، إنما في نطاق ما تقتضيه الميثولوجيا. بين هاتين الفئتين يلوح معطى آخر، كوكبي بامتياز: هل فعلا العالم مقبل على منسوب أعلى من السلام في ربوعه كي يُنتظر السلام في الشرق الأوسط؟ كل فكرة مؤتمر مدريد قامت على شيء من هذا، على تقدير أن زمن ما بعد الحرب الباردة أكثر سلامية واستقراراً على الصعيد العالمي. وقد ظهر خلاف ذلك.
فإن كان الكوكب يتحضر للمزيد من التقلبات الجوية والجوفية اليوم، هل يمكن فعلاً تخيل أي قوام تأخذه أي مسألة في الشرق الأوسط، بما في ذلك قضية السلام؟ إعداد العدة لانعكاسات اللا – استقرار العالمي الكبير أولى. طبعاً، ثمة من يقرأ في المجريات على أن وقف الحرب في أوكرانيا مقدمة لإعادة تنظيم العالم على نحو يضمن استقراراً لعقود من الزمان. كما لو أن هرمية عالمية ستتأسس من الآن فصاعداً وكل أمة، كل نفر، سيلتزم بالمكان المخصص له فيه.
في أقل الإيمان، هذا تصور أسطوري، في تعريفه. هذا لم يحدث من قبل، وكلما جرى السعي لحصول شيء مثله كان الأمر فاتحة لخراب طويل. ليس بالضرورة أن يستعيد المرء كل أدبيات مناهضة الإمبريالية كي يمتلك الحق في التقدير بأن دونالد ترامب ذاهب، والكوكب رفقته، إلى مأزق كبير.
(القدس العربي)