أليس غريبا أن المنطق الذي يتبعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأزمة الروسية الأوكرانية يتناقض تماما مع ما يفعله في الصراع العربي الإسرائيلي؟ وكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ الأزمة الروسية الأوكرانية يكرر ترامب طوال الوقت أنه حان الوقت لوقف الحرب ووقف إراقة دماء جنود وأبناء البلدين، وأنه بدلا من إنفاق مليارات الدولارات على شراء الأسلحة التي تقتل الآلاف فالأفضل توجيه هذه الموارد لبناء وإعادة إعمار المناطق التي دمرتها الحرب في البلدين.
لكن في مقابل هذا المنطق الذي يبدو وجيها وإنسانيا نرى ترامب ينقلب عليه تماما في حالة الصراع العربي الإسرائيلي. هو يؤيد إمداد إسرائيل بكل أنواع الأسلحة، وآخرها 35 ألف قنبلة تزن الواحدة منها 2000 رطل، وكان الرئيس السابق جو بايدن قد أوقف إمداد إسرائيل بها لأنها تسببت في تسوية أحياء سكنية كاملة بالأرض.
يطالب ترامب أوكرانيا بوقف الحرب ووقف شراء الأسلحة وتسوية الصراع مع روسيا، لكنه لا يفعل ذلك مع إسرائيل، بل قال إنه زايد أكثر من مرة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقال إنه إذا لم تفرج حركة حماس عن جميع الأسرى في وقت محدد فسوف تُفتح أبواب الجحيم عليها. وهو الأمر الذي يتناقض تماما مع بنود الاتفاق الذي يقول إنه هو السبب الرئيسي في إنجازه بين إسرائيل وحماس في 19 يناير الماضي.
وطوال الوقت يتحدث فقط عن أسرى إسرائيل وهم عشرات ولا يمر على خاطره آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. هو يصف المقاومة الفلسطينية بأنها مختلة ومتوحشة لأنها تحتفظ بأقل من خمسين جثة لأسرى إسرائيليين ويتجاهل تماما أن إسرائيل تحتفظ بآلاف من جثث الفلسطينيين. هو تحدث أكثر من مرة عن وجه شاحب لأحد الأسرى الإسرائيليين أثناء الإفراج عنه باعتباره جريمة ضد الإنسانية، في حين أن مقتل وإصابة 150 ألف فلسطيني وآلاف المفقودين وتدمير أكثر من ثلث مباني ومنشآت قطاع غزة بالكامل أمر لا يحرك عنده أي مشاعر إنسانية.
كيف يمكن تفسير هذا التناقض؟!
للوهلة الأولى فإن الأمر يبدو وكأن الرئيس الأمريكي لا يرى في الفلسطينيين بشرا لهم حقوق متساوية مع بقية البشر، في مقابل خوفه على سكان أوكرانيا وروسيا الذين يدفعون حياتهم ثمنا للصراع، فإنه اقترح تهجير كل سكان غزة من أرضهم، وعدم العودة إليها مرة أخرى.
أظن أن أحد التفسيرات المهمة لموقف ترامب أنه يتماهى تماما مع الرواية والسردية الإسرائيلية، مثلما يتماهى أيضا من السردية الروسية إلى حد كبير. لكن في الأمة الأوكرانية فإن موقف ترامب يبدو ضارا وخطرا على المصالح الأمريكية العليا التي ترى في روسيا عدوا استراتيجيا يمثل خطرا عليها وعلى مصالحها في أوروبا والعديد من مناطق العالم.
ولذلك هناك الكثير من كلمات الاستفهام لدى العديد من المراقبين الأمريكيين والدوليين عن سر لغز انحياز ترامب غير المبرر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أما في الحالة الإسرائيلية فمن الواضح أن ترامب ينحاز بشكل سافر إلى جزء مهم من قاعدته الانتخابية وهو اللوبي اليهودي فى أمريكا، وقد رأينا حجم الأموال الضخمة التي تبرع بها هذا التيار لترامب ليس فقط في جولاته ومعاركه الانتخابية، ولكن أيضا لتمويل قضاياه في المحاكم الأمريكية طوال السنوات الماضية، وهناك مثال صارخ على هذا الأمر يتمثل في ميريام أدلسون أغنى سيدة في إسرائيل بثروة تقدر بـ 34 مليار دولار، التي تبرعت لترامب بأكثر من 217 مليون دولار مقابل وعده بتأييد ضم إسرائيل للضفة الغربية، مثلما اعترف من قبل بضم الجولان السورية أو نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.
إحدى مشاكلنا في العالم العربي أن كثيرا منا ما يزالون يفكرون بعواطفهم ويتحدثون كثيرا عن القانون الدولي والشرعية وقرارات الأمم المتحدة، وهي مصطلحات يستخدمها الأقوياء فقط حينما تكون في صالحهم، ويرمونها في أقرب سلة مهملات حينما تتعارض مع مصالحهم، ومن لا يصدق عليه أن يعيد مشاهدة الخناقة البلدي بين ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي يوم الجمعة الماضي!
(الشروق المصرية)