تقدير موقف

قمّة.. "منزوعة السلاح"!

"الحكي ما عليه جمرك"، هكذا يقول أهل الشّام، وهكذا يقول الفلسطينيون، الذين لا أظنّهم اهتموا كثيرًا بالجلوس إلى شاشات التلفاز لمشاهدة "كلمات" القادة العرب في قمّتهم الاستثنائية التي عنْوَنوها: "فلسطين".

قمّة..

في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي قبل عام ونصف العام عُقدت في الرياض "قمة" عربية إسلامية، وكانت أيضًا "استثنائية"، لبحث العدوان الإسرائيلي "الغاشم" على قطاع غزّة والضفّة الغربية. بعدها بعام أي في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 عُقدت القمة الثانية لبحث الموضوع عينه، بعد أن توسّع العدوان، فأُضيف لبنان إلى غزّة والضفّة.

وإنْ لم تخُنِّي الذاكرة كان بيان القمّة الأولى يتضمّن 32 بندًا وقرارًا، في حين تضمّن الثاني ثمانية وثلاثين.

بين القمّتين، وبعدهما، ماذا جرى "على الأرض"؟.. لا شيء، على الرّغم من القرارات التي تربو على الثلاثين، غير أنّ قمةً جديدة عُقدت. هذه المرة في القاهرة، ليصدر عنها بيان لا يكاد يختلف في مضمونِه وديباجته (وعديد بنوده، وقراراته) عن البيانات السابقة. كما لا يختلف عنهما (وهذا مرْبط الفرَس) في خلوِّه من الإشارة إلى أدوات الضّغط التي يمكن اللجوء إليها في التعامل مع الطرف الإسرائيلي - الأميركي الذي كان من المتوقّع أن يرفض قرارات القمّة جملةً وتفصيلًا، وهو ما حدث بالفعل بعد ساعات من اختتامها.

منَحَ بعض العرب إسرائيل التطبيع الذي كان من المفترض ألّا يكون سوى ثمن لإعادتها الأراضي العربية التي احتلّتها

أكّدت القمم الثلاث على التمسّك بمبادرة السلام العربية (2002). حسنًا فعلوا، ولكن هل تعرفون كم مضى من الوقت على هذه المبادرة التي كان جوهرها "الأرض مقابل السلام"؟... بمعنى مقايضة التطبيع مع العدو بانسحابه من الأراضي "المحتلة"، بما يسمح أوّلًا: بسلام (عادل، وحقيقي)، وثانيًا: بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة قابلة للحياة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967.

23 عامًا كاملة... ماذا جرى خلال هذه الفترة؟ هل أعادت إسرائيل الأرض؟ بالعكس احتلّت المزيد، وما زالت تتغوّل في جنوب لبنان تارةً، وفي سوريا تارةً أخرى. بالمناسبة، لم يتغيّر الموقف الإسرائيلي من سوريا بعد تغيّر النظام فيها. فالغارات، التي وصلت إلى العاصمة دمشق لم تتوقف يومًا زمن بشار الأسد.

في الحقائق المجرّدة إذن أنّ إسرائيل لم تنسحِب من شبرٍ واحد من "الأرض"، وعلى الرَّغم من ذلك، وعلى الرَّغم من أنف مقرّرات "قمّة" بيروت، التي أقرّها "العرب"، مَنَحَهَا بعض العرب (أنفسهم) التطبيع الذي تطلبه، والذي كان من المفترض، حسب مقررات "قمّتهم" ألّا يكون سوى ثمنٍ لإعادة إسرائيل للأراضي العربية التي احتلّتها، وهو الذي لم يحدث أبدًا.

من دون أوراق ضغط لن يتراجع الإسرائيليون والأميركيون

في الصورة الكبيرة لدينا "لاعبان":

1 - الإسرائيليون: وهم "يفعلون" على الأرض، ما قالوا إنّه أهدافهم: غزّة غير صالحة "للعيش"، ليُضطر أصحابها قسرًا إلى المغادرة، وضفّة (يهودا والسامرة، كما يسمّونها) بلا فلسطينيين وبلا سلطة. وشرق أوسط "جديد" يُهَيْمنون عليه؛ اقتصاديًّا، وأمنيًّا بنفوذهم، وسلاحهم "وهَواننا". لم يكتفِ الإسرائيليون بإعلان أهدافهم تلك صراحةً على لسان مسؤوليهم، بل "اتخذوا على الأرض" الخطوات العملية لتحقيق هذه الأهداف.

2 - في المقابل، لدينا قادة عرب لم يوفّروا جهدًا في التوافد إلى قممهم لإلقاء "الخطابات" وتدبيج البيانات (عديدة النقاط)، والتقاط الصور الجماعية، ثم لا شيء على الأرض. ولا حتى التلويح بما يملكونه من نفوذ، أو أوراق في مواجهة الطرف الإسرائيلي - الأميركي؛ إيقافًا لمسيرة التطبيع، أو مراجعةً لحجم الاستثمارات، أو بإعادة النظر في معاهدات سلام لم تتردّد إسرائيل في انتهاك جوهرها، أو على الأقل ملاحقها الأمنية.

ماذا لو أعيد إعمار غزّة ثم أعادت إسرائيل تدميرها؟

الموقف الأميركي - الإسرائيلي واضح وقاطع: لا دولة فلسطينية. ولا اعتراف حقيقيًا بالسّلطة الفلسطينية (سلطة رام الله)، ولا نهاية للحرب الوحشيّة على غزّة والضفّة، ناهيك عن موقف خبيث لا تخفى أهدافه من منظمة "الأونروا" لا يستهدف في حقيقته غير شطْب قضية اللاجئين ومحو الهوية الفلسطينية المتوارثة.

من دون إرادةٍ حقيقيّة لاستخدام ما يملكونه من أوراق ضغط، ماذا سيفعل العرب مع هكذا موقف؟ وهل ستفلح بيانات الرّفض والتنديد والاستنكار (التي لم تفلح على مدى عقود) في أن تغيّر شيئًا على الأرض؟

على هامش "القمّة" الأخيرة، انشغل البعض بغياب هذا أو ذاك من القادة العرب عن قمّتهم "الاستثنائية"، وأحسب أنّ "الغياب الأهمّ" هو ما غاب عن مقرّرات القمّة من إشارة كانت لازمة لأوراق الضّغط التي من دونِها، لن يتراجع الإسرائيليون والأميركيون عن مواقفهم المسبقة والصريحة والمعلنة.

لن تنسحب إسرائيل لأنّ العرب اجتمعوا وطالبوها بذلك ولن تكون هناك دولة للفلسطينيين لأنّ المقاومة ألقت سلاحها

بحثًا عن بارقة أمل، رحّب الكثيرون (بما فيهم "حماس") بالقمّة ومقرراتها. وفي "نصوصها" بالفعل ما يستحقّ الترحيب. واختصر البعض المسألة كلّها في معضلة التمويل: من سيدفع؟ وإلى من سيدفع؟ وأحسب أنّ هذا، على أهميته، ليس له أن يحجب السؤال الرئيسيّ: ماذا لو لم تسمح إسرائيل بإعادة إعمار غزّة؟ بل والأدهى: ماذا لو أعيد إعمار غزّة ثم "أعادت" إسرائيل قصفها وتدميرها، بهذه الذريعة أو تلك؟ هل تضمّنت القرارات إشارة (مجرّد إشارة) إلى أوراق الضغط التي يمكن اللجوء إليها (ويملكها العرب)، في حال رفض الإسرائيليون والأميركيون الخطة العربية تلك؟.

لن تنسحب إسرائيل، ولن تكون هناك دولة للفلسطينيين، لأنّ العرب اجتمعوا في القاهرة وطالبوها بذلك. فهُم فعلوا في بيروت قبل 23 عامًا، وأعلنوا السلام "اختيارًا استراتيجيًا".

لن تنسحب إسرائيل، ولن تكون هناك دولة للفلسطينيين، لأنّ المقاومة ألقت سلاحها، فهي أعلنت ذلك في "أوسلو" قبل ثلاثين عامًا واختارت "سلام الشجعان" مقابل وعد بدولة خلال خمس سنوات، فمرّت ثلاثة عقود، من دون أن يحصلوا على "الدولة"، بل عمِل الإسرائيليون بدأب على ألّا يكون هناك "على الأرض" إمكانية عمليّة لإقامة هكذا دولة، ناهيك عن أنّهم أعلنوا موقفهم واضحًا بقرار "رسمي" يرفضون فيه أن تكون هناك مثل هذه الدولة.

لا يفلّ الحديد سوى الحديد.

من دون "سلاح" في الميدان، أو "أوراق ضغط" على طاولة المفاوضات، لن يقدّم لك الطرف الآخر شيئًا.

فليسأل المتفائلون "الواهمون" أنفسَهم: ماذا لو كان المصريون قد ألقوا سلاحهم واختاروا "عقلانية" التطبيع مع إسرائيل "القوية/المنتصرة" بعد يونيو/حزيران 1967؟ هل كانت ستنسحب من سيناء؟

لا شيء بلا ثمَن. ولا تحرير بلا دماء.

وبعد،

ها هي قمّة عربية "أخرى". وأخشى أن أقول إنّها لم تكن قمّة "إعادة الإعمار"، بل قمّة "إعادة الكلمات". ما يقوله العرب اليوم، هو ما قالوه بالأمس (وقبل الأمس). راجعوا من فضلكم مقرّرات قمّتَي الرياض الأخيرتين حول الموضوع ذاته.

لا يمكنك أن تذهب إلى ميدان المعركة أو إلى طاولة المفاوضات من دون أن يكون لديك سلاح أو أوراق ضغط

لماذا يضطر العرب إلى أن يعيدوا ما قالوه مائة مرّة من قبل؟ أو بالأحرى لماذا لم تنجح قمم العرب الأخيرة في أن تُنفّذ أيًّا من قراراتها؟

الإجابة لأنها ببساطة "منزوعة السلاح".

لا حاجة للقول إنّه لا يمكنك أن تذهب إلى ميدان المعركة، أو إلى طاولة المفاوضات من دون أن يكون لديك سلاح، أو أوراق ضغط.

كما لا حاجة للقول إنّه حين يغيب "سلاح" أوراق الضغط عن بيانات قمّة العرب، يصبح من الغفلة (إذا اخترنا لفظًا مهذّبًا) أن يُطالِب بعضُ العرب بنزع "سلاح المقاومة". 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن