تعيش سوريا على وقع صفيح ساخن وسط مخاوف جدية من اقتتال طائفي مذهبي بدأ يلوح في الأفق ما يمكن أن يدخل البلاد في أتون صراع جديد تستفيد منه فلول النظام والقوى التي كانت داعمة له من أجل التشويش على الإدارة السورية الجديدة وإثارة الفوضى والشغب وإضعاف البلاد وجعلها جزراً متناحرة غارقة في الدم والنزاع الداخلي. وتبذل إدارة الأمن العام السورية مساعي ومحاولات جادة لضبط الأوضاع واعادة فرض السيطرة والتصدي لكل مخططات التفرقة وفرض وقائع سياسيّة جديدة، خصوصاً أنها تدرك المخططات والمآرب الداخلية والخارجية المحدقة بها.
واللافت كان أن عودة الاشتباكات الدموية وارتفاع حدتها تزامن مع التهديدات الاسرائيلية بحماية دروز سوريا والدفاع عنهم في محاولة لتأليبهم على الحكم الجديد وتعزيز فكرة التقسيم. ناهيك عن مخاوف تل أبيب من التقارب السوري - التركي الجديد وإمكانية استعادة سوريا بناء اقتصادها بينما مصالحها تتجلى في بقائها دولة مفككة ضعيفة ذات اقتصاد هشّ والسعي لعدم قيام دولة سورية واحدة موحدة على حدودها. وعليه، فإن دمشق اليوم ترزح تحت ضغوط وتحديات جسيمة تتوزع بين ضبط الأوضاع الأمنية الداخلية والتصدي لمخططات فلول الأسد ومن يدور بفلكهم، محاربة الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة ومساعيها لبث الفتنة عبر استخدام ورقة "الأقليات"، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والتي تضع البلاد أمام مسؤوليات جمة مع استمرار العقوبات المفروضة، التي يتم العمل على رفعها ولو تدريجياً.
وفي تفاصيل الأحداث، شنّت مجموعات مسلحة موالية للنظام السابق هجمات على القوى الحكومية قبل يومين في الساحل السوري ما أدى إلى عشرات القتلى والجرحى ودفع نحو تعزيزات أمنية ضخمة وارسال ارتالاً من القوات لمواجهة الاشتباكات، التي تعد الاعنف والاكثر دموية منذ سقوط بشار الاسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي. فيما حضّ الرئيس السوري، أحمد الشرع، المسلحين المؤيدين للأسد، على تسليم سلاحهم وأنفسهم "قبل فوات الأوان"، مؤكداً الاستمرار في حصر السلاح بيد الدولة بحيث "لن يبقى سلاح منفلت".
من جهته، أشار "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، في حصيلة جديدة، إلى أن "745 مدنياً قتلوا في مناطق الساحل السوري وجبال اللاذقية من جانب قوات الأمن ومجموعات رديفة" منذ الخميس الماضي. وبذلك، ترتفع حصيلة أعمال العنف إلى أكثر من 1018 قتيلاً، بينهم 273 عنصراً من قوات الأمن ومسلحين موالين للأسد، وفق المصدر نفسه. هذا ونددت فرنسا بما يجري، داعية إلى "أكبر قدر من الحزم بالتجاوزات التي طالت مدنيين على خلفية طائفية وسجناء" في سوريا، مطالبة "السلطات السورية الانتقالية إلى ضمان إجراء تحقيقات مستقلة تكشف عن كامل هذه الجرائم، وإدانة مرتكبيها".
وكانت صور وفيديوهات انتشرت على نطاق واسع تشير إلى انتهاكات ارتكبت في عدد من المناطق على خلفية مذهبية وطائفية ومناطقية وعمليات إعدام ميدانية، ما أعاد إلى الأذهان المخاوف من عودة النظام الأمني السوري السابق وبطشه وتجاوزاته. في حين أكدت إدارة الأمن العام السورية عدم السماح بأي أعمال انتقامية تحت أي ظرف، متوعدة بمحاسبة الفاعلين وسوقهم إلى العدالة كما أعلنت القبض على عدد كبير من العابثين بالأمن واللصوص واستعادة المسروقات. وقد ساهم الانتشار الأمني الموسع إلى اعادة فرض السيطرة الكاملة على مدينتَي طرطوس واللاذقية. إلى ذلك، تسببت أحداث الساحل السوري بحركة نزوح كثيفة باتجاه لبنان، وبالتحديد منطقة عكار، عبر المعابر غير الشرعية في ظل غياب أي إجراءات أمنية.
في هذا السيّاق، تستضيف عمّان، اليوم، اجتماعاً لدول الجوار السوري، سيحضره وزراء الخارجية ووزراء الدفاع ورؤساء هيئات الأركان ومديرو أجهزة المخابرات في الأردن، وتركيا، وسوريا، والعراق ولبنان بهدف بحث آليات التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات والسلاح ومواجهة التحديات المشتركة الأخرى. وبحسب مصادر "الشرق الأوسط" فإن عمّان ستركز في اجتماعات دول جوار سوريا على ملفي الطاقة والمياه. وفي حين لا تزال جهود مكافحة الإرهاب وعصابات تهريب المخدرات على رأس الأولويات الأردنية، فإن الجانب الأمني والعسكري سيظل أولوية متقدمة بعد الاعتداءات الإسرائيلية على مناطق جنوب سوريا، وسعي تل أبيب لفرض وضع عسكري قائم ودائم في مناطق غرب درعا.
والى جانب التطورات السورية على خطورتها، تستمر حالة المراوحة في قطاع غزة مع جمود مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار وتوقف دخول المساعدات الإنسانية بينما يدأب الوسطاء على تفكيك العقد وبذل الجهود لمنع استئناف القتال وفق طموحات رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أعلن مكتبه أنه سيرسل وفداً إلى الدوحة، غداً الاثنين، ليناقش استمرار الهدنة. بدورها، أعلنت حركة "حماس" موافقتها على تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي من شخصيات وطنية مستقلة لإدارة قطاع غزة لحين إجراء الانتخابات العامة على كل مستوياتها الوطنية والرئاسية والتشريعية، وذلك بناء على مقترح مُقدّم من مصر. يُذكر أن صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أفادت أن المحادثات بين واشنطن و"حماس" تجري دون مشاركة إسرائيلية، وأن المقترح الاميركي الجديد يقضي بإطلاق سراح 10 من الأسرى الأحياء مقابل تمديد وقف إطلاق النار في قطاع غزة لمدة شهرين.
لبنانياً، نفذّ العدو الاسرائيلي سلسلة من الغارات العنيفة تجاوز عددها العشرين استهدفت بلدات جنوبية عدة مساء الجمعة، بحسب ما أفادت "الوكالة الوطنية للإعلام". كما استهدفت احدى الغارات سيارة ما أدى إلى مقتل شخص وإصابة آخر. وبرّر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي هذه الاعتداءات والخروقات بأنها استهداف لـ"مواقع عسكرية تابعة لـ"حزب الله"، متوعداً "بمواصلة العمل لإزالة أي تهديدات ضد إسرائيل والحؤول دون إعادة تموضع الحزب في المنطقة".
في موازاة ذلك، يسعى الحزب لتحميل الدولة اللبنانية مسؤولية صدّ الانتهاكات وردعها ودحر العدو الاسرائيلي، متنصلاً من أي دور كما جاء على لسان عدد من مسؤوليه. ومنذ توقيع اتفاق وقف النار يرمي "حزب الله" الكرة في ملعب الدولة التي يتهمها بلعب دور "المتفرج"، وهو الذي اتخذ قرار الحرب بمنأى عنها وحمّل اللبنانيين على اختلافهم تداعياتها من دمار وخراب وتشريد. يُشار إلى أن مئات من المستوطنين الإسرائيليين من طائفة يهود الحريديم اقتحموا، في وقت سابق، الأراضي اللبنانية بحجّة زيارة قبر الحاخام آشي، الذي يقع عند أطراف بلدة حولا الجنوبية، وذلك بحماية من القوات الإسرائيلية التي نظمت عملية الاقتحام بذريعة اتاحة تأدية طقوس دينية.
أما في الشأن الإيراني، فقد ردّ البيت الأبيض على رفض إيران دعوة الرئيس دونالد ترامب للتفاوض على اتفاق نووي، بالتشديد على أن الأخير "يمكن أن يتعامل مع طهران، إما عسكرياً وإما من خلال إبرام صفقة". ويأتي ذلك بعدما رفض المرشد الإيراني، علي خامنئي، بشكل جازم إجراء أي مفاوضات مع "دولة تمارس البلطجة". وقال: "إن إصرار بعض الحكومات المستبدة على المفاوضات ليس من أجل حل القضايا، بل من أجل الهيمنة".
وفي جولة اليوم على الصحف العربية التي اهتمّت بالتطورات السورية ودوافعها إلى جانب تداعياتها ونتائجها. ونورد أبرز ما ورد في العناوين والمقالات:
تطرقت صحيفة "الدستور" الأردنية إلى أهمية اجتماع دول الجوار السوري في عمّان اليوم، لتؤكد أن "أمن الأراضي السورية كما هو ضرورة سورية هو دون أدنى شك ضرورة أردنية، وأمن سوريا من أمن الأردن الذي عانى لسنوات طويلة من تحديات كبيرة على حدوده ومواجهات متواصلة لمواجهته تهريب المخدرات والسلاح"، مستنتجة أن نتائج هذا الاجتماع "ستكون بداية لمرحلة جديدة بين دول الجوار مع سوريا ...مرحلة مؤسسة على رؤى واضحة مشتركة".
وأشارت صحيفة "الأهرام" المصرية إلى أن "أخطر العلاقات على الطريق القادم هو ما تفعله إسرائيل بمحاولاتها السيطرة على الأقليات واحدة وراء الأخرى، والظهور بأنها جيش الأقليات ضد الأغلبية في المنطقة التي تحاصرها بالإرهاب"، مشددة على أن "إسرائيل وضعت في صلب إستراتيجياتها، منذ تأسيسها، العمل على تقسيم المنطقة العربية، خصوصا سوريا ولبنان، لدويلات طائفية، مستغلة التنوع الفسيفسائي الطائفي القائم، وذلك لإضفاء الشرعية على وجودها كدولة يهودية من جهة، وإشغال العرب بصراعات طائفية في ما بينهم من جهة أخرى".
ونبهت صحيفة "الشروق" الجزائرية إلى أن ما "سوريا تمر بإحدى أخطر مراحلها بعد تلك التي عرفتها في العقد السابق إباّن ما عُرف إعلاميا بثورات الربيع العربي". وقالت: "لم تكد هذه الدولة المركزية في العالم العربي تخرج من أتون حرب داخلية لم تُبق ولم تذر منذ سنة 2011، حتى بدأت اليوم تلوح في الأفق ملامح صراع طائفي داخلها ستكون له نتائج وخيمة إن لم يتم التحكم فيه بآليات سريعة وفي وقت قصير".
هذا وأوردت صحيفة "الراي" الكويتية أن أحداث الساحل السوري تُنذر بتفاعلات على أكثر من مستوى في لبنان أبرزها: تحدي موجة النزوح الجديد الذي تجلى في تدفق العديد من العائلات السورية خصوصاً من الطائفة العلوية من مدن الساحل السوري عبر مجرى النهر الكبير في اتجاه عكار، الى جانب تحدي ضبْط الحدود اللبنانية – السورية في الاتجاهين، بمعنى قطع الطريق على أي توريط للبنان في محاولة فلول نظام بشار الأسد، وبدفع إيراني مرجّح، استعادة نفوذٍ على أنقاض فوضى تتقاطع طهران مع تل أبيب على مصلحة فيها كل لحساباته"، وفق تحليلها.
واعتبرت صحيفة "عُمان" العمانية أن "ما يحدث في المنطقة اليوم هو تشكيل للشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه الأدبيات الصهيونية منذ عقود طويلة وما حدث ويحدث في قطاع غزة وفي لبنان وفي سوريا وفي العراق وإيران هو في سياق ذلك التشكيل"، مؤكدة أن "الشرق الأوسط مرّ بفصول كثيرة من الدم والنار، وفي كل مرة كان الحل يأتي في النهاية عبر طاولة المفاوضات، وسيأتي يوم يدرك فيه الجميع أن منطق الصراخ لا يبني دولا، والتآمر لا يبني حضارات".
من جهتها، رأت صحيفة "الراية" القطرية أنه "على الدوام تشكل إسرائيل عامل تهديد لأمن واستقرار المنطقة، لارتكابها جرائم الحرب ضد الفلسطينيين وجيرانها من العرب، ناهيك عن امتلاكها ترسانة أسلحة نووية لا تخضع للرقابة الدولية"، داعية "المجتمع الدولي ومؤسساته إلى تحرك عاجل لإجبار إسرائيل على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وإعادة الأمن والاستقرار إلى الشرق الأوسط وتجنيب العالم مزيداً من الأخطار".
(رصد "عروبة 22")