أنقذوا سوريا من محنتها

في الأيام الأولى، من شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2024، غادر الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى روسيا في رحلته الأخيرة، بعد انفلات الأمور وعدم قدرة الحكومة على مواجهة المعارضة المسلحة. وكان المؤمل أن تبدأ صفحة جديدة، في التاريخ السوري، ملؤها التسامح والوئام والمحبة. لكن الوقائع التالية، أثبتت أن الأوضاع معبئة بأكثر مما يحتمله أو يتصوره عقل.

نحن هنا، في هذه السطور، لا نساجل لمصلحة أي فريق من الفرقاء، الذين يعبدون صراعهم مع الغرماء بالدم، بل نقف مع حقن دم السوريين، في أي خندق من خنادقهم، فالجميع أهل لنا وأحبة، وأي روح تهدر من أرواحهم، هي خسارة لنا.

سوريا، كما بقية بلاد الشام، لبنان وفلسطين والأردن، هي بلاد التنوع الديني والمذهبي، لأكثر من ألف عام مضت. وأديانها ومذاهبها لم تأت من خارج المكان، بل هي استمرار لواقعها وانتمائها وهويتها العربية. ولم يكن هذا التنوع، في يوم من الأيام، عنصراً كابحاً لوحدة قواها الوطنية، في مجابهة الاستبداد العثماني، وإلحاق الهزيمة به، باستثمار نتائج الحرب العالمية الأولى.

وكانت بوصلة السوريين واضحة وجلية، ترفض قبول احتلال بآخر، حتى وهو يتلفع بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان. فلم تكد طلائع الجيش الفرنسي، ودباباته ومدفعياته، تحط بالأراضي السورية، حتى تواجه بمقاومة باسلة، في معركة ميسلون قادها الشهيد يوسف العظمة، حيث الفارس يواجه من فوق صهوة حصانه، دبابات الفرنسيين، في معركة محسومة لمصلحة المستعمر، مجسدة انتصار الأخلاق والمبادئ، على لغة القوة العسكرية. وسجل للعظمة مقولته الخالدة، «خشيت أن يكتب التاريخ، أن السوريين استقبلوا الفرنسيين من غير مقاومة». وكان له ما أراد...

ولم تكن معركة ميسلون، سوى محطة واحدة في التاريخ السوري، ففي مواجهة الاستعمار الفرنسي، توحد السوريون في جميع مناطقهم لمقاومة الاحتلال، ففي دمشق قاد عبد الرحمن الشهبندر الثورة السورية، وحظي بلقب العقل المدبر للثورة السورية الكبرى، التي اشتعلت عام 1919. وقد اغتاله الفرنسيون عام 1940.

ومن محافظة إدلب، خرج إبراهيم هنانو، ليشارك في قيادة الثورة السورية، ضد الفرنسيين، منذ عام 1919، بعد فترة وجيرة من احتلال الفرنسيين للأراضي السورية. وفي جبل العرب، جنوب سوريا، قاد سلطان الأطرش القتال ضد الفرنسيين.

وتجدر الإشارة، إلى أن الفرنسيين، بعد معركة ميسلون، عملوا على تنفيذ شعار فرق تسد، فقسموا سوريا إلى خمس دول، دولة دمشق، دولة حلب، دولة جبل العلويين، دولة لبنان الكبير، دولة جبل الدروز. ولا يزال أهلنا في عاصمة الأمويين، دمشق، يسجلون لأحيائها، الشاغور والميدان صولاتهم في مقاومة الاحتلال.

ما هدفنا في هذه القراءة لتأكيده، هي أن وحدة سوريا ليست حدثاً طارئاً، بل هي من صنع التاريخ، وأن محاولات تفتيت وحدة السوريين، ليست من صنع الداخل، بل هي صناعة وافدة، لن يطول بها المقام. وللأسف فإن سوريا، منذ أكثر من عقد من الزمن، باتت عرضة لتدخلات دولية، وإقليمية وافدة من الشمال والشرق والغرب، أجنداتها مختلفة، وجوهرها واحد، هو استلاب الإرادة السورية، وهو ثمن دفعته ولا تزال تدفعه بجدارة، منذ بداية عصر اليقظة العربية، حتى يومنا هذا.

فالحديث عن العروبة المعاصرة، بتجلياتها السياسية والأدبية والفنية، هو حديث عن سوريا، قلب العروبة النابض، شاء من شاء وأبى من أبى. وستظل كذلك قلعة عصية في وجه الإرهاب. وستظل سوريا للسوريين، ويرحل عنها، الذين وفدوا من كل صوب. والسوريون، هم بيضة الإسلام، ورواد الفتوح العربية، ليسوا بحاجة إلى من يعلمهم، من خارجهم، إلى مبادئه وتعاليمه. وعلى أرضهم شيدت الدواوين العربية، وصكت أول عملات محلية في تاريخ العرب.

سوريا الآن، تمر بمحنة كبيرة، غير مسبوقة، منذ عقود طويلة، وليس من المنطق أن يتركها العرب، وحيدة في مواجهة الأعاصير. والوقوف إلى جانبها، هو تسديد لبعض ديون لها على عاتقنا. فما تمر به من محنة، يمسنا جميعاً.

والوقوف إلى جانبها، ليس دعوة لمساندة فريق على فريق آخر، بل هو مساندة للتسامح والحب، والقضاء على الكراهية والبغضاء بين السوريين، واتساقاً مع قول العلي عز وجل، «وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن». (سورة النحل الآية 125)، وذلك في محصلته، جزء من الدفاع عن الأمن القومي العربي الجماعي.

الأوضاع في الشمال السوري، وفي جنوبه مقلقة جداً، وتتطلب تدخلاً عربياً سريعاً وفورياً لمعالجتها. لا يعقل أن تكون جميع القوى الإقليمية، حاضرة في الصراع الدائر، فوق الأراضي السورية، وأن تقوم إسرائيل، باحتلال مدينة القنيطرة، وتغدو مدينة حلب التاريخية في قائمة المصروفات، ويجري تدمير الجيش السوري وآلته العسكرية، تدميراً تاماً وممنهجاً، ويقف العرب مكتوفي الأيدي أمام هذا العدوان.

وقف نزيف الدم السوري، في اللاذقية وطرطوس والقرى والمدن القريبة منهما، حتى لو استدعى الأمر، حضوراً عسكرياً عربياً. وبالمثل مطلوب من النظام العربي الرسمي الدفاع عن جنوب سوريا من الاحتلال الإسرائيلي، المتعلل بحماية السكان السوريين من طائفة الموحدين.

آن للعرب، أن يقفوا جميعاً لإنقاذ سوريا من محنتها، وأن يعيدوا البسمة والفرح لأطفالها والربيع لنسائها، ويسهموا في بناء مستقبلها، ومرة أخرى، تلك مسؤولية ليست فرض كفاية.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن