دعم المنصّات العربية: فرصتُنا لتخفيف القوة الجيوسياسية للاقتصاد الرقمي!

منذ صعودها في السنوات العشرين الماضية، سيطرت الولايات المتحدة الأميركية على سوق المنصّات الرّقمية العالمية، عبر منصّاتها الرئيسية مثل غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت، وأدخلتها ضمن نظامها الجيوسياسي الذي يركّز على الهيمنة الأميركية على النظام العالمي الليبيرالي الجديد.

دعم المنصّات العربية: فرصتُنا لتخفيف القوة الجيوسياسية للاقتصاد الرقمي!

وقد ساعد على ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، وسمح بتمدّد أذرع الولايات المتحدة الأميركية تدريجيًّا إلى العالم عبر الشراكات الاستراتيجية والتحالفات وزيادة النفوذ والتدخّل في دول العالم وجعلها تابعة لنظامها الجيوسياسي العالمي، الأمر الذي وفّر غطاءً سياسيًّا واقتصاديًّا للمنصّات الأميركية للهيمنة على البنية التحتية الشبكيّة العالميّة، وبيانات عدد كبير من سكان العالم، ومكّن الشركات الأميركية التي تدور في فلكِها من قوة ثقافية واقتصادية وسياسية هائلة، فشلت العديد من المبادرات التنظيمية - مثل القمّة العالمية للمعلومات - في كسْر ما تمارسه من احتكار وهيمنة.

سمح ذلك للمنصّات بممارسة نوعٍ من الاستبداد وصل حدّ الطغيان الرّقمي (مثال ذلك فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" التي استهدفت جمع بيانات 87 مليون مستخدِم على فيسبوك، و"فضيحة ملفات سنودون"، وفضيحة التحيّز الواضح لمجلس الإشراف العالمي لـ"ميتا" تجاه المحتوى الداعم لإسرائيل)، وقديمًا اعتبر حكماء أثينا الاستبداد شيئًا مرتبطًا بالتحريف، والتشويه، والفساد، حيث عرّف "أفلاطون" الاستبداد كشكل محرّف من الديموقراطية، يُظهر نتيجة الدفع بمبادئ الحكْم الجيّد بعيدًا، ثم تنتهي إلى الطغيان، ويتجلّى طغيان المنصّات العالمية في شكلِها الحالي، كحرّاس بوابة المعلومات العالمية، وهو ما يسمح لها بالقدرة على التأثير في الأوضاع الاجتماعية والسياسية لبلدان العالم، نتيجة قدرتها على التدخّل في تحديد تبادل المعلومات على نحوٍ عالمي، وأحيانًا منعها أو تضخيمها عبر أنظمتها الاجتماعية - الآلية الواسعة، وقد سبق لـ"ميتا" أن اعترفت بتدخّلها في نوع المعلومات المتبادلة في 80 دولة كانت تستعد للمشاركة في الانتخابات خلال عام الانتخابات التاريخي (2024).

"تيك توك" تتمدّد في عقر دار المنصّات العالمية معنى ذلك أنّ هناك دائمًا إمكانية لزيادة المنافسة على سوق المنصّات

في سياق هذه الهيمنة، وفي العام 2016، تمّ إطلاق منصّة "تيك توك" في الصين تحت اسم 'Douyin'، ثم تم إطلاقها عالميًّا في العام 2017 تحت اسم "تيك توك" بعد دمجها مع تطبيق "ميوزكلي"، وبحلول العام 2020 أصبحت المنصّة الأكثر زيارة في العالم بأكثر من 700 مليون مستخدِم نشط شهريًّا حول العالم، منهم 500 مليون تمّ تجنيدهم مباشرة من الصين لدعم المنصّة وتنشيطها، خدمةً لأجندة الصين الجيوسياسية أيضًا، ودعمًا للحضور الصيني في الاقتصاد العالمي للمنصات، وبذلك نجح "تيك توك" في منافسة الشركات الأميركية في سوق الاقتصاد الرقمي، وقدّم منافسة مفاجِئة للشركات الأميركية، وتهديدًا مباشرًا لاستقرار النظام العالمي.

إنّ نجاح منصة "تيك توك" وصعود نجم منصّات الفيديو القصير المرفق بالموسيقى المُعاد برمجتها، يؤكّد أنّ سوق الاقتصاد الرّقمي العالمي ما زال مفتوحًا وقادرًا على استيعاب فاعلين جدد، كما يؤكّد على أنّ المستخدِمين الشبكيّين سيتبنّون المنصّات الجديدة المبتكَرة عندما تُتاح لهم بميزات تنافسية جديدة تناسب حاجاتهم ومتطلباتهم، بغضّ النظر عن أصولها الجغرافية، فها هي منصة "تيك توك" مثلًا تتمدّد في عقر دار المنصّات العالمية (أكثر من 40 مليون مستخدِم في أميركا ووصل عدد موظفي المنصة في الولايات المتحدة في العام 2020 إلى 1400 موظف)، ومعنى ذلك أنّ هناك دائمًا إمكانيةً وفرصًا من هنا وهناك لزيادة المنافسة على سوق المنصّات، وتجاوز الأجندات الجيوسياسية التقليدية، وتجنّب هيمنة كل من أميركا والصين، ويصبح ذلك ممكنًا عن طريق الضغط نحو تبنّي المبادرات والهيئات الدولية المعنية المزيد من الإصلاحات في سوق المنصات الرقمية، ودعم برامج بنية تحتية رقمية واستثمارية محلّية وجِهوية خاصة بالدول الأخرى، يكون هدفها الأساس هو تشجيع نمو اقتصاد المنصّات المحلّية والجهوية، وتشجيع الشركات الناشئة على تطوير منصّات رقمية محلية، كما هو الشأن مع طموح إنشاء منصة رقمية عربية، ينخرط فيها بدايةً، بنشاط وحيوية، مستخدمو الدول العربية من المحيط إلى الخليج، ثم سرعان ما تتجاوز حدودها الجغرافية، نحو العالمية، وهو ما سيمنحها إمكانيّة زيادة المنافسة، وتخفيف القيود المُركّزة في سوق المنصات العالمية.

توحيد معايير التجارة الرقمية وحوْكمة الإنترنت بين الدول العربية من أجل تعزيز تكامل السوق الرقمية الإقليمية

سيحتاج هذا المشروع العربي الضخم، إلى الأخذِ بظروف العالم العربي الاقتصادية والسياسية والموارد المحلّية الرّاهنة، وقدرات الصناعة والتجارة البيْنية بين الدول العربية، إضافةً إلى توحيد معايير التجارة الرقمية وحوْكمة الإنترنت بين الدول العربية من أجل تعزيز تكامل السوق الرقمية الإقليمية، التي بدورها ستسهم في تعزيز قدرة الشركات المحلية على تقديم خدمات رقمية فعالة وآمنة، مع ضمان التوازن بين الأمان والخصوصية والشفافية، وتشجيع الشركات المحلية على الاستفادة من البيانات والنماذج التجارية الرقمية.

إنّه سباقٌ على الدول العربية الدخول إليه حالًا قبل أن يصبح الأمر متأخرًا، وفرصة لن يعوّضها التاريخ وجب الأخذ بها في حينها لتخفيف القوة الجيوسياسية للاقتصاد الرقمي، والهيمنة التقليدية للأقوياء على الضعفاء، والتي ستزداد حدّةً ونفوذًا في المستقبل حيث تتقلّص الفرص وتزداد المخاطر ونتحوّل طوعًا أو كرهًا نحو حرب الكل ضدّ الكل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن