وسط كلّ هذه التهديدات التي تعرفها مباريات الرّدع في الصّراعات الدولية جيّدًا أتت أنباء الاتصالات الأميركية الرسمية بـ"حماس" فحظيَت أنباؤها بردود فعل واسعة تناسبت مع دلالتها، وتباينت وفق مواقف أطراف الصّراع.
بعض ردود الفعل كان طبيعيًّا كردّ الفعل الإسرائيلي الذي انطوى على مظاهر القلق الشديد لأسبابٍ واضحة، فالاتصالات أيًّا كان مضمونها ومآلها مثّلت اعترافًا غير مباشر بـ"حماس"، وتمّت من دون استئذان إسرائيل، حتى ولو كانت أُخطِرت بها مُسبقًا كما تدّعي، لأنّ المهم أنّ موافقتها على إجراء الاتصالات لم تكن مطلوبة. كما أنّ تصريحات مبعوث ترامب لشؤون الرّهائن انطوَت على أفكار مزعجة لإسرائيل، كقوله إنّ للولايات المتحدة مصالحها، وإنّها ليست وكيلة لإسرائيل، وإن رجال "حماس" أناس طيبون وليست لهم قرون.
يبدو غريبًا أن يجمع القلق من الاتصال الأميركي بـ"حماس" بين موقفَي إسرائيل والسلطة الفلسطينية
ومن دون أيّ تشكيك في رسوخ الالتزام الأميركي بأمن إسرائيل، فإنّ دلالات الاتصال الأميركي المباشِر بـ"حماس" لا بدَّ أن تثير قلقًا كبيرًا لدى إسرائيل، باعتبار أن الدعم الأميركي الشامل يمثّل الضمانة الأساسية لبقائها.
وإذا كان ردّ الفعل الإسرائيلي على هذه الاتصالات قد بدا طبيعيًّا للغاية فإنّ أغرب ردود الأفعال في تقديري كان ردّ الفعل الفلسطيني الرّسمي، فقد وُصِفَ انخراط "حماس" في هذه الاتصالات بأنّه إصرار على تشتيت الموقف الوطني الفلسطيني من خلال فتح قنوات اتصال بِجهات أجنبية، وأنّ الكشف عن هذه الاتصالات عشية القمّة العربية الطارئة يُشكِّل التفافًا على قراراتها، ومحاولةً لإضعاف الموقف العربي الصارم الذي تجسّد فيها وفي خطّة إعمار غزّة بالذات، والتصدّي لمحاولات تهجير أهلها خارج الوطن.
ودعت السلطة الفلسطينية "حماس" إلى العودة للرشد الوطني، وإنهاء الانقسام وتسليم غزّة للسلطة تحت قاعدة سلطة واحدة وقانون واحد وسلاح واحد وتمثيل سياسي شرعي واحد. كما نُسِب لـ"فتح" بيان اتّهم "حماس" بالتخابر مع جهات أجنبية، ويحتاج الأمر إلى تحليل موضوعي لهذا الموقف لأنّ حلم الوحدة الوطنية الفلسطينية الضرورية من أجل الانتصار في المواجهة الحالية ما زال يُـمثّل هدفًا أسمى، ومثل هذه المساجلات لا تخدمه بحال.
بدايةً، فإنه يبدو غريبًا أن يجمع القلق بين موقفَي إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وقد اجتهد الكثيرون في تفسير هذا التشابه، وهي اجتهادات لا أُريد التوقّف عندها لأنها تعتمد على تحيّزات لا يمكن الجزْم بموضوعيّتها، ولأنّ الغرض هو جسر الفجْوة بين طرفَيْ الانقسام الفلسطيني الرئيسييْن وليس توسيعها، ولكنّي للأمانة عجزْت عن إيجاد الصّلة بين انخراط "حماس" في اتصالات بالإدارة الأميركية وبين الالتفاف على قرارات القمّة وإضعاف مواقفها، فهذه الاتصالات إن نجحت قد تُفضي لتحسين شروط الإدارة الرّاهنة للصراع مع إسرائيل، ولا تصادر أيّ جهد عربي للتصدّي للتهجير وإعادة الإعمار، وقد تراجع ترامب مؤخّرًا عن موقفه الداعي للتهجير، وهو ما يعني أن الاتصالات لم تعزّز هذا الموقف، وإنّما حدث العكس، أيّ أنها لم تضرّ بالموقف العربي.
ثم نأتي للقضايا الأهم التي وردت في التصريحات السابقة، وهي إنهاء الانقسام وتسليم غزّة للسّلطة تحت قاعدة سلطة واحدة وقانون واحد وسلاح واحد وتمثيل سياسي شرعي واحد، وهي قضايا الهدف الاستراتيجي لإنهاء الانقسام الفلسطيني، غيْر أنّ تحقيق هذه الأهداف لا يمكن أن يتمَّ على طريقة الغالب والمغلوب، ودعوة السلطة "حماس" لتسليم غزّة لها لا تأخذ في اعتبارِها أنّ قضية الشرعية مشتركة بين طرفيْ الانقسام، فالسّلطة لها شرعية الرئاسة، و"حماس" لها شرعية المجلس التشريعي والحكومة، وكلاهما فاقد الشرعية بالمعنى الزّمني، أي انتهاء المدد القانونية لكلّ السلطات في غزّة والضفّة، ولذلك فإنّ المنهج يكون بالتوافق وليس بغلبة طرف على آخر. صحيح أنّ كلّ محاولات التوافق السابقة على كثرتها قد فشلت، لكن هذا لا يعني التخلّي عن المنهج السليم.
ليصطفّ الجميع من أجل الدفاع عن حقوق شعب فلسطين بعيدًا عن أي هدف آخر
وتبقى تهمة التخابر مع جهات أجنبية التي أدعو مُطلقيها لمراجعتها، خصوصًا وقد أثارت ردود فعل ساخرة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، بالنّظر إلى علاقة السلطة بإسرائيل، والحقيقة أنّ مفهوم التخابر يرتبط بالسرّية، وبنقل معلومات للعدو تضرّ بالطرف الذي يخونه العميل، وهو مفهوم لا يمكن عقلًا انطباقه على الاتصالات الأميركية بـ"حماس"، ولو كان الأمر غير ذلك لكان حوار منظمة التحرير الفلسطينية مع الإدارات الأميركية منذ أواخر ولاية رونالد ريغان في ديسمبر/كانون الأول 1988 تخابرًا، وكذلك مفاوضات المنظمة مع إسرائيل التي سبقت اتفاق أوسلو عام 1993، وكلّ اتصالات التنسيق الأمني مع إسرائيل، بل ومفاوضات المقاومة للتوصّل إلى هدنة مع إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، فرِفقًا بفلسطين في هذه الأيام العصيبة، وليصطفّ الجميع من أجل الدفاع عن حقوق شعبها، بعيدًا عن أي هدف آخر.
(خاص "عروبة 22")