وجهات نظر

خطورة ثقافة الانتقام

قبل أسابيع احتفلت فرنسا ومعها نسبة كبيرة من البشر بمرور 234 عامًا على أمّ الثورات الإنسانية "الثورة الفرنسية" وسقوط سجن الباستيل الرمز الأكبر للعبودية والقهر (14 يوليو/ تموز 1789).

خطورة ثقافة الانتقام

هذه الثورة العظيمة التي رفعت شعارات "الحرية والإخاء والمساواة"، تفيض بالدروس والعبر القَيّمة التي يمكن استخلاصها بسهولة من مسارها الدراماتيكي المتعرّج والطويل، ولعلّنا هنا في أمّتنا العربية نحتاج بقوة إلى تأمّل هذه الدوس القيّمة ومنها أنّ اللجوء للعنف المنفلت مدفوعًا بثقافة "الثأر" هو بديل عن غاية "كشف الحقيقة" التي لا بدّ أن تكون نصب أعين الثوار، إذ يحدث في أحيان كثيرة أنه تحت وطأة فكرة الثأر وما يصاحبها من عنف منفلت أن يضيع تمامًا أيّ اثر إيجابي للثورة على المجتمع بل ربما تتمزّق أوصاله في غمرة شيوع الفكرة الثأرية لدى الثوار فتضيع أهدافهم النبيلة ويتحوّل فعلهم الثوري إلى مجرد فقرات في مهرجان انتقامي دموي مجنون يطال الثوار أنفسهم أولًا ثم المجتمع نفسه ثانيًا (أنظر ما حدث في بعض أقطارنا مثل سوريا وليبيا واليمن).

"المقصلة" حصدت في أقلّ من 5 سنوات أرواح نحو 35 ألف إنسان يتقدّمهم أبرز قادة الثورة

في هذا السياق ربما يكون مفيدًا رواية واحدة من أخطر حكايات الثورة الفرنسية، ألا وهي حكاية "المقصلة" الرهيبة التي كادت في إحدى مراحل هذه الثورة أن تكون عنوانها الوحيد.

وأبدأ القصة من نهايتها، أي من أنّ آلة الذبح والقتل الجهنمية "المقصلة"، التي حصدت في أقلّ من خمس سنوات أرواح نحو 35 ألف إنسان يتقدّم صفوفهم جميعًا أبرز وأهم قادة الثورة المحفورة أسماؤهم حتى الساعة ليس فقط في لحم تاريخ فرنسا وحدها بل في تاريخ الإنسانية، ومنهم "روبسبير" الذي كان قاضيًا وصار ثائرًا خطيرًا وهو أبرز من رفع شعار "سلامة الشعب أهمّ من شكليات العدالة"، فلما انعقدت له القيادة في ذروة مرحلة "الإرهاب الثوري" طبّق هذا الشعار بحذافيره ووسّع دائرة المشبوهين سياسيًا فذبح الآلاف بالشبهة حتى جاء عليه الدور وقُتل هو نفسه بالطريقة عينها!!

أما بداية حكاية المقصلة فتبدو الطرافة فيها واضحة جدًا، إذ كانت فكرتها من نبت خيال النائب والطبيب البارز جوزيف جيلوتان الذي عرض على الجمعية الوطنية التأسيسية "برلمان الثورة" ذات يوم اقتراحًا خلاصته أننا ما دمنا قمنا بثورة شعارها الرئيسي المساواة بين المواطنين أجمعين فلا بدّ من تعميم طريقة الإعدام بقطع الرأس على كل المحكومين بهذه العقوبة، ومن ثم يتعيّن فورًا إنهاء التمييز الموروث من العهد البائد في وسيلة تنفيذ حكم الموت بين المدانين المنتمين لطبقة النبلاء والمجرمين العاديين.

وقال الدكتور الثوري مسوغًا فكرته: إنّ المجرم النبيل يتمتّع وحده بميزة الإعدام ذبحًا بينما زميله المجرم المنحدر من طبقات الشعب يُعدم شنقًا!!

وشفع جيلوتان اقتراحه الذي وافق البرلمان عليه بتصميم مبتكر لآلة قتل جديدة أبدعها هو بنفسه وتتميّز بأنها ذات نصل حام قاطع يجزّ الروؤس بسرعة ودقة!!.

مخترع "الجيلوتين" أفلت رأسه هو نفسه منها بمعجزة

البرلمان من جانبه سرعان ما أحال اختراع معالي النائب إلى طبيب مرموق آخر هو أنطوان لويس سكرتير الأكاديمية الملكية للجراحة حتى يبحث الموضوع، وبالفعل قام هذا الأخير بكتابة تقرير زكّى فيه اقتراح النائب جيلوتان، وبناءً على هذه التزكية صدر مرسوم بتعميم استخدام آلة الذبح المبتكرة التي أطلق الناس عليها في البداية إسم "لويزون" أي "لويزة الصغيرة" نسبة للدكتور لويس صاحب تقرير إجازتها، غير أنّ منشورًا رسميًا صدر بعد ذلك أعاد الفضل لصاحبها الأصلي وتضمّن تسمية المولود الدموي الجديد "جيلوتين"، وهي لفظة مؤنثة مشتقة من اسم الدكتور صاحب الاختراع!!

هذا المنشور أثار استياء جوزيف جوليتان لأنه لم يكن يريد تخليد اسمه بهذه الطريقة، أي مقترنًا بآلة قتل شنيعة أفلت رأسه هو نفسه منها بمعجزة عندما كان واحدًا من "المشبوهين سياسيًا" الذين اعتقلهم روبسبير وأمر بقتلهم جميعًا على "الجيلوتين".

بيد أنّ روبسبير نفسه أدركه حكمًا بالإعدام على تلك المقصلة قبل يوم واحد من تنفيذ الأمر بقتل مخترعها!!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن