نتوقف في هذه المقالة عند مجموعة من التحديات التي نجزم أنه لا مفر من أن تؤخذ بعين الاعتبار من طرف العقل العربي القومي المعاصر في معرض صيانة الموروث القومي، من منطلق استحضار مجموعة تحوّلات مرّ منها العقل القومي خلال العقود الماضية، وهي التحوّلات التي فصل فيها مليًا مقال للباحث التونسي عبد اللطيف الحناشي مؤخرًا هنا في منصة "عروبة 22"، تحت عنوان "الوحدة العربية... ماذا عن تراجع الاهتمام بالفكرة؟".
أحصينا ثلاث محدّدات على الأقل يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار من أهل الفكر/ العمل القومي المشترك الراهن، أو من طرف كل المعنيين برد الاعتبار للفكرة القومية، وجاءت كالتالي:
المنعطف الرقمي ليس موضوع ترف نظري وإنما قضية مفصلية
ــ يكمن المحدّد الأول في أهمية استحضار دور وتأثير المنعطف الرقمي، أقلّه عدم الاستهانة له، لأنه لوحظ أنه لا زالت نسبة من الأقلام الفكرية المدافعة عن الهمّ القومي، تقزّم من هذا المنعطف، بل هناك فئة أخرى ترى أنه مجرد منعطف عابر ولا يحتمل كل هذا التهويل أو المواكبة الإعلامية والبحثية التي نعاينها منذ عقدين تقريبًا، بينما الأمر خلاف ذلك.
يكفي التذكير بمجموعة من الأسئلة المؤرقة التي بزغت مؤخرًا على هامش الخوض في إحدى تبعات هذا المنعطف والتي تحمل عنوانًا يعج بالهواجس، أي الأسئلة المرتبطة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي جعلت أسماء سياسية واقتصادية وعلمية وازنة في العالم بأسره تدلي بدلوها في الموضوع. المنعطف الرقمي ليس موضوع ترف نظري وإنما قضية مفصلية في الساحة وعلى عدة أصعدة.
عاينّا تطبيقات الخطاب الديني الحركي في عدة أحداث بالمنطقة العربية، أقلّها ما جرى أثناء وبعد أحداث 2011
ــ يكمن المحدّد الثاني في التعامل مع المنعطف الرقمي الراهن باستحضار بعض مفاهيم السوق الاقتصادية، ومنها التعامل مع المشهد كأننا إزاء "سوق رقمية" مفتوحة وخاضعة في آن لقانون العرض والطلب على الخطاب، وهي الظاهرة نفسها التي نعاينها على سبيل المثال مع ثنائية العرض والطلب التي تهمّ الخطاب الديني، وبالتالي إزاء التعامل مع "سوق دينية رقمية" تتميّز بحضور عدة أنماط من الخطاب الديني، من قبيل خطاب المؤسسات الدينية أو خطاب الحركات والجماعات الإسلامية وخطاب الطرق الصوفية ضمن أنماط أخرى.
ومعلوم السبق الذي أحرزه الخطاب الديني الحركي في هذا السياق، والذي عاينّا تطبيقاته في عدة أحداث بالمنطقة العربية، أقلّها ما جرى أثناء وبعد أحداث 2011، ضمن أمثلة أخرى تقتضي أن يأخذها العقل القومي العربي المعاصر بمحمل الجد.
لنتوقّف عند نموذج تطبيقي في هذا السياق، ويهمّ اشتغال الأقلام الإسلامية الحركية في المنصات الرقمية التابعة لها، سواء تعلّق الأمر بالمنصات الإعلامية ذات الأفق الثقافي، أو المنصات البحثية، من قبيل مراكز ما يُصطلح عليه مراكز "أسلمة المعرفة"، ولنا أن نتأمل تعامل هذه المنصات والمنابر مع الخطاب القومي من قبيل تعاملها مع الرموز الفكرية القومية، حيث لا تخرج الخلاصات الأولى والصريحة عن حضور نقدي ضد هذه الرموز أو عدم حضورها أساسًا، وما أكثر الأمثلة في هذا السياق. وهذه تفاصيل قلّة من ينتبه إليها إضافة إلى أنها تعجّ بعدة خلاصات تقتضي بعضًا أو كثيرًا من التأمل.
ــ نأتي للمحدّد الثالث وهو أقرب إلى مقام المكاشفة مع الذات الفكرية القومية، وجاء في صيغة سؤال صريح مع الذات: ما الذي يمكن أن يقدّمه الخطاب القومي الجديد عبر المنصات الرقمية ومن ذلك عبر بوابة المؤثرين؟
هذا سؤال مفصلي ويقتضي الاشتغال وتقديم أجوبة، تتطلّب بدورها تأمّل أحداث الساحة والتفاعلات النظرية والميدانية التي تمرّ منها المنطقة قبل الحسم في أولى الخطوط العريضة للأجوبة على السؤال نفسه.
لطرح رؤى فكرية جديدة، ومنها الرؤى الخاصة بالهمّ القومي أو الفكرة القومية
واقع المنطقة العربية في حقبة ثمانيات القرن الماضي ليس الواقع نفسه اليوم، ومن ذلك أنّ واقع الخطاب القومي في مصر في عهد جمال عبد الناصر ليس هو واقع الخطاب القومي اليوم، وواقع الخطاب القومي في حقبة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ليس الواقع نفسه بعد الغزو الأمريكي للعراق عبر بوابة الدبابات والإعلام اللندني الذي كان ينشر لأقلام فكرية ودينية تزعم الإصلاح والنهضة والتحديث، ضمن لائحة عريضة من الأمثلة التي تفيد إشاراتها أنه جرت عدة تحولات في الشقّين الفكري والميداني تقتضي طرح رؤى فكرية جديدة، ومنها الرؤى الخاصة بالهمّ القومي أو الفكرة القومية، وهذا أمر ليس هيّنًا الحسم فيه بين ليلة مؤتمر إقليمي وضحاها، ولكن نقتصر هنا على إثارة انتباه اللبيب الذي بالإشارة يفهم، أيًا كان مكانه ومقامه في المنطقة العربية.
(خاص "عروبة 22")