تناقضات اليمن تهدد وحدته

الجاذبية اليمنية لمن يهتم تنحصر بفعل الأحداث الدرامية الراهنة في الحملة العسكرية الأمريكية الرهيبة ضد المقدرات التنموية اليمنية في المحافظات الشمالية، باعتبارها مصدر القوة والأموال لجماعة أنصار الله الحوثية، والتي أعاد الرئيس ترامب توصيفها كجماعة إرهابية دولية تستحق كل أنواع العقاب. في الأحداث الجارية منذ منتصف مارس الماضي توالت الغارات الأمريكية على كل المحافظات الشمالية، أصابت معظم ما فيها من بنية أساسية، لا سيما المطارات والموانىء في الغرب، وتحديدا ميناء الحديدة ورأس عيسى النفطي والذي تم تدميره تماما.

حصار مصادر القوة للحوثيين من وجهة نظر الرئيس ترامب يشمل أبعادا متنوعة، عسكرية ومدنية معا، إضافة الى التخلص من قيادات الحوثيين الذين قُتل بعضهم فعلا، فى حين ما زالت رؤوس كبيرة حاضرة في المشهد السياسي دون أن تراجع خطابها الأيديولوجي المستند إلى مواجهة الغطرسة الامريكية والإسرائيلية، كأداء عملي لنصرة الفلسطينيين في قطاع غزة. وبغض النظر عن الحصيلة الفعلية لهذا الخطاب الأيديولوجي ومدى ما حققه لنصرة القطاع المنكوب، والحجم الهائل من الدمار الذي جلبته الغارات الامريكية وقنابلها الشديدة التدمير على المقدرات اليمنية المحدودة أصلا، يجد اليمنيون وانصارهم على اختلاف مواقعهم أنفسهم جميعا في مفترق طرق شديد التعقيد، ومفتوح على نهايات غير سعيدة بالمرة.

التدخلات الخارجية لدى قطاع كبير من اليمنيين لعبت وما زالت تلعب دورا سلبيا وتأثيرا هائلا غير مرغوب على مفهوم الدولة الموحدة في اليمن، حيث تتصادم فيه اتجاهات متنافرة. فالسلطة المعترف بها دوليا ممثلة في مجلس القيادة الرئاسي، برئاسة رشاد العليمي، والذي أعلن تشكيله في ابريل 2022، يواجه معضلة كبرى سواء في مواجهة الحوثيين المسيطرين على العاصمة صنعاء، وكل محافظات الشمال اليمني منذ سبتمبر 2014، أو لمحاصرة الاتجاهات والقوى الانفصالية في الجنوب ممثلة في المجلس الانتقالي الجنوبي، فبالرغم من الاختلاف الكبير بين منطلقات هذين الطرفين تحديدا تجاه القضايا المتعلقة بالمصير اليمني، فثمة قاسم مشترك بينهما، وهو تفضيل انقسام الدولة اليمنية وتجاوز اتفاقات الوحدة مايو 1990.

فالحوثيون لا يمانعون من تقسيم اليمن، والاعتراف بهم كحكام لليمن الشمالي، والمجلس الانتقالي للجنوب اليمني يسعى إلى فصل الجنوب، والعودة إلى ما قبل إعلان دولة الوحدة. والمفارقة هنا أن رئيس المجلس الانتقالي هو أحد أعضاء مجلس القيادة الرئاسي الممثل للسلطة الشرعية، والمفترض انه ملتزم بالحفاظ على وحدة اليمن، وإنهاء الحرب وكسر شوكة الحوثيين. لكن عمليا فالأمر مختلف تماما، ويفسر هذا التناقض بين العمل ضد وحدة البلاد وعضوية مجلس الرئاسة، الكثير من التراجعات والأداء المحدود للسلطة الشرعية.

ونظرا للخسائر التي تعرضت لها جماعة أنصار الله الحوثية، بفعل الضربات الامريكية، يدعو تيار داخل المجلس الرئاسي إلى استغلال الفرصة، والقيام بحملة عسكرية تستفيد من الضربات الامريكية على مصادر القوة للحوثيين، وتهدف إلى إنهاء الحكومة الحوثية، وتحرير المحافظات الشمالية، أو على الأقل إعادة السيطرة على الحديدة في غرب البلاد، والطريق الساحلي الممتد من باب المندب إلى عدن، وبما يشكل ضربة قاصمة للحوثيين، ويمهد إلى اقتلاعهم من صنعاء.

وتستند هذه الرؤية إلى مبررين، أولهما ان الضربات الجوية الامريكية، ومهما تكن قوتها وشدتها، فهي لا تغير موازين القوى على الأرض، ثانيهما أن إحداث تغيير ملموس يتطلب شن حملة برية تطرد الحوثيين من مواقعهم لاسيما صنعاء العاصمة. لكن طبيعة موازين القوى في المجلس الرئاسي تحول دون الإقدام على تلك الحملة البرية، فالرعاة الإقليميون لا يحبذون هذا التوجه الميداني، كما أن التنسيق مع الولايات المتحدة غير موجود حتى اللحظة، إذ يكتفي البيت الأبيض باستعراض قوته العسكرية الهائلة على أحد أفقر بلدان العالم، وينصح بحملة برية للسيطرة على الساحل الغربي وحسب دون التوجه إلى صنعاء، ما يعني أن التوازن العام بين الحوثيين وخصومهم سيظل على ما هو عليه. مع ملاحظة ان استعراض القوة الأمريكي في اليمن يعد جزءا من ضغوط واشنطن غير المباشرة على سيرورة المفاوضات مع إيران، والتي بدأت غير مباشرة برعاية عمانية.

تمتد التناقضات اليمنية إلى المحافظات الجنوبية، او ما تعرف بالمحافظات المحررة، خاصة محافظة حضرموت، والتي تعد أيقونة الجنوب اليمني، وأحد أبعاد التاريخ الناصع لليمن ككل. وفيها تختلط الاتجاهات وتتصارع ليس فقط على مصير المحافظة بل على جنوب اليمن بكامله، حيث يستهدف المجلس الانتقالي لجنوب اليمن العودة إلى صيغة الدولتين، ويمهد في كل تحركاته لفصل واقعي بين الشمال والجنوب، يمهد لقرار سياسي استراتيجي لاحقا يطبق الانفصال ويمنحه شرعية داخلية وخارجية معا، معتبرا أن الصراع مع الحوثيين هو مسؤولية حصرية لأهل الشمال، وأنه لا شأن لأهل الجنوب به، ومناديا بأولوية تكريس الفوارق بين الشمال والجنوب، وليس معالجتها في ظل دولة موحدة.

وبالرغم من سطوة المجلس الانتقالي الجنوبي ورئيسه عيدروس الزبيدي وامتلاكه قوة عسكرية منظمة، فإن أفكاره الكلية لا تروق لقطاعات مهمة من الحضارمة، فمنهم من يقبل بالوحدة ويطالب المجلس الرئاسي برفع المظالم عن أهل المحافظة وعلاج مشكلات التعليم والصحة والبنية الأساسية لحضرموت ككل، ومنهم من يطالب بالحكم الذاتي الكامل لحضرموت، وهو المطلب الذي يتمسك به "حلف قبائل حضرموت"، والذي أعلن عن نفسه أغسطس 2024، وبات يعرف باسم مجلس حضر موت الوطني، ثم تطور موقفه لتشكيل قوة عسكرية من أبناء قبائل الحلف بهدف حماية الثروات التي تتمتع بها المحافظة، وتكريسها لمصالح ابنائها واحتياجاتهم الضرورية والحفاظ على خصوصيتها. وهو تطور ينذر بمواجهات مع القوة العسكرية التابعة للمجلس الانتقالي.

وفي ظل هذه الخريطة المعقدة والمتشابكة من الاتجاهات المتنافرة والتدخلات الخارجية العنيفة، يرتفع مستوى الخطر لليمن ومن حوله معا.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن