في مقال سابق بعنوان "استعادة بوتين لفاغنر توازي انضمام السويد للناتو"، تحدّثنا عن "الفصل المُمرحل بين فاغنر وزعيمها بريغوجين" وعن ثنائية "بريغوتين" التي برزت قبل التمرّد واستمرّت بعده، وقد لا تنتهي بمصرع أحد ضلعيها بريغوجين الذي بات أحد أقانيم روسيا وحيثيات وجدانها المستولَد من حرب اوكرانيا، ومن معركة استعادة النفوذ في أفريقيا، بشهادة الكسندر دوغين المنظّر الروسي الذي أسبغ على بريغوجين دور البطولة النادرة وأنكر عنه الخيانة، كما وبشهادة بوتين نفسه الذي اعتبر بريغوجين شخصًا موهوبًا رغم ارتكابه "أخطاء كثيرة".
لن نستغرق في تعداد فرضيّات أسباب انفجار طائرة بريغوجين، فربما يطول الوقت قبل فكّ شفرة صناديقها السوداء. ما يستوقفنا هو التوقيت السوبر استراتيجي الذي قضى به بريغوجين. فمَن أبرع من بوتين في استثمار الأحداث وإخفائها، ثمّ التحكّم بتوقيت إعلانها كقنبلة منزوعة الصاعق.
فبوتين الذي "يُراقص" حلف الناتو على مسرح أوكرانيا، أكثر من يجيد الرقص السُريالي. ولهذا خبّأ لمدة عشرين يومًا لقاء المصالحة مع بريغوجين رفقة 35 قياديًا فاغنريًا بحضور رئيس استخباراته الخارجية سيرغي ناريشكين، وأعلن عنه تزامنًا مع انعقاد قمّة الناتو في ليتوانيا، ليطلق تشويشًا قويًّا على القمّة التي قرّرت ضمّ السويد لعضويتها بمباركة اردوغانية. وعلى إيقاع "رقصة السامبا" البرازيلية في جنوب أفريقيا التي احتضنت قمّة "بريكس" الأشهَر منذ تأسيسها، وحضرت فيها روح بوتين دون جسده، توالت الأنباء عن مصرع بريغوجين، الذي شاءت المصادفات القدرية وربما التوقيتات البوتينية أن يكون حدثًا قاريًّا وعالميًّا وليس روسيًّا فقط.
تفجير بريغوجين تزامن مع زيارة روسية إلى بنغازي ألغت كلامًا عن خضوع حفتر لضغوط أمريكية بهدف طرد "فاغنر" من ليبيا
وفي اندماج نادر بين المصادفات القدرية والتوقيتات البوتينية، نسجّل أنّ تفجير بريغوجين تزامن مع زيارة غير مسبوقة لنائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف إلى بنغازي حيث تباحث مع قائد الجيش الليبي خليفة حفتر في "أوجه التعاون العسكري والأمني ومحاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود" بحسب المتحدث باسم الجيش الليبي أحمد المسماري.
زيارة يفكوروف إلى بنغازي وبعدها دمشق، أتت في ظلّ تحوّلات جيوسياسية عاصفة، وعكست دلالات عميقة حول تمسّك روسيا بسوريا وليبيا أولًا، وبنفوذها الذي بنته في أفريقيا ثانيًا. لكنّ المتغيّر الجوهري خصوصًا بعد قمة روسيا / أفريقيا أنّ إدارة نفوذ روسيا واستراتيجياتها انتقلت إلى وزارة الدفاع الروسية، وأنّ "فاغنر الجديدة" بعد إعادة هيكلتها التي أُنجزت جزئيًا قبل مقتل بريغوجين، ستعمل تحت إشرافها ما يلغي ثنائية القرار ويؤمّن وحدة القيادة والسيطرة.
الأهمّ في زيارة يفكيروف إلى بنغازي أنها ألغت كلامًا أشيع في بعض القنوات الدقيقة عن خضوع حفتر لضغوط أمريكية مارسها مدير وكالة المخابرات الأمريكية وليام بيرنز، ومساعدة وزير الخارجية الأمريكي باربرا ليف بهدف إنخراطه في طرد "فاغنر" من ليبيا.
التزامن اللافت مع زيارة يفكوروف، تمثّل بإعلان "مقاومة الخُمس"، غير المعروفة سابقًا والمعزّزة بحاضنة شعبية، عن البدء في مواجهة ما أسمته بالاحتلال التركي لليبيا، ردًّا عمّا أثير حول تأجير حكومة عبد الحميد الدبيبة ميناء مدينة الخُمس للبحرية التركية لمدة 99 عامًا، ما دفع دبيبة للإعلان عن توسيع القاعدة وعدم تأجيرها. لكنّ الأمر الذي عصف بالدبيبة وحكومته بفعل التداعيات الخطيرة في الشارع الليبي المتمسّك بغالبيته العظمى بفلسطين وقضيّتها المركزية، هو لقاء وزير خارجية "إسرائيل" إيلي كوهين بنظيرته الليبية نجلاء المنقوش في روما، ما دفع دبيبة بفعل الاعتراضات المتصاعدة شعبيًا وسياسيًا إلى إقالة المنقوش وإحالتها للتحقيق توازيًا مع غضب أمريكي من التسريب الإسرائيلي لأنّه أطاح بجهود "تطبيعية" كبيرة.
ثمّة من اعتبر زيارة يفكوروف نتاج المحادثات الروسية الليبية في إطار "مؤتمر موسكو الدولي الحادي عشر للأمن" نهاية أيار/ مايو، والذي مثّل فيه ليبيا مستشار الأمن القومي الليبي ابراهيم بوشناف، الأمر الذي رصدته واشنطن التي زارها بوشناف منتصف حزيران/ يونيو بدعوة من مدير مجلس الأمن القومي الأمريكي لشمال أفريقيا جيريمي بيرندت. وسبق الزيارتين جولة لبوشناف في دول الساحل والصحراء عرض خلالها لقادتها رؤيته لتفعيل "منظومة أمنية" تواجه التحديات التي ضاعفتها أحداث النيجر المفتوحة على حرب مع فرنسا، التي اعتبرت أن لا أهليّة لانقلابيي النيجر بطرد السفير الفرنسي وخروج القوات الفرنسية، ما دفع المجلس العسكري كإجراء أوّلي إلى قطع إمدادات المياه والكهرباء والغذاء عن البعثات والقواعد الفرنسية كافة، ودفع ماكرون إلى تحدّي الانقلابيين والتمسّك ببقاء سفيره.
سجّل بريغوجين "رسالته الأخيرة" من منطقة باتت معقلًا للحركات الإسلامية المتطرّفة
بعد النيجر والسودان، انتقلت عدوى الصراع المسلّح إلى تشاد التي تعيش مأزقًا سياسيًا متصاعدًا نتيجة الإنقلاب الذي باركه الرئيس الفرنسي وأوصل محمد إدريس ديبي إلى الحكم عقب مقتل والده في مواجهة مع المعارضة المسلّحة المتحالفة مع الجيش الليبي، ويخوض "ديبي الابن" اليوم حربًا معها، وقصفها بالطيران داخل حدود ليبيا، ما دفع الجيش الليبي لتنفيذ انتشار واسع جنوبي ليبيا وعلى امتداد الحدود المتصلة مع النيجر وتشاد، ونفّذ عملية مطاردة للمعارضة التشادية المسلّحة وبعض عوائلها بمنطقة أمّ الأرانب قرب مدينة سبها، وتردّد أنّ هذه العملية تمّت بطلب فرنسي حمايةً لتواجدهم الأخير في تشاد.
إذا كان "الطوارق" يشكّلون المكوّن الاجتماعي الحدودي بين النيجر وجنوب ليبيا والجزائر ومالي، فإنّ "التبو" يشكلون المكوّن الاجتماعي الحدودي بين تشاد وليبيا والسودان، وفي هذا السياق يبرز دور المكوّنات الاجتماعية في الشرائط الحدودية التي استثمر فيها وعليها رسّامو الخرائط الدينوغرافية والديموغرافية.
بالعودة لمصرع بريغوجين بعد جولة أفريقية، شملت بوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى ومالي، وبحسب الإعلامي النيجري عمر الأنصاري نقلًا عن خبراء الجغرافيا الطوارق، فـ"المنطقة التي ظهر فيها بريغوجين تقع في أربندا مقابل تينبكتو". وفي هذه المنطقة التي باتت معقلًا للحركات الإسلامية المتطرّفة، سجّل بريغوتين "الرسالة الأخيرة" وتضمّنت أنّ فاغنر "تجعل روسيا أعظم في جميع القارات، وتجعل أفريقيا أكثر حرّية وسعادة".. وفي الوقت نفسه "تخلق كوابيس لأنظمة متطرّفة مثل داعش والقاعدة".
إنّها الرسالة التي تُمثّل عقيدة بوتين الاسترالوجية التي تتواجه مع استراتيجية بايدن العشرية التي يبدو أنها قضت بإزاحة فرنسا لعدم كفاءتها واقتدارها على مواجهة فاغنر ربيبة روسيا. فلنراقب "تراقص" الاستراتيجيتين وتصادمهما من أوكرانيا إلى شرق الفرات وأفريقيا.
(خاص "عروبة 22")