هذا التيار الذي تمثّل بـ"الإخوان المسلمين"، قبل تأسيس "حزب التحرير" في مطلع الخمسينيّات والذي يدعو إلى عودة الخلافة، لم يكن يُناصب الغرب سياسيًا بقدر ما كان يُناصب الثقافة الغربية العداء بما في ذلك التيارات الفكرية والسياسية. وقد كسب التيار الإسلامي عامةً الفئات المُحافظة التي ترفض أخلاقيّات الغرب والدعوات إلى السفور وخروج المرأة إلى الفضاء العام.
وقد وجد هؤلاء الإسلاميّون أنّ التهديد الذي يتعرّض له الإسلام كدين لا يأتي من الأطماع الاستعمارية فحسب، ولكنّه يأتي من التيارات الفكرية القومية والشيوعية التي تتعرّض لجوهر الإسلام كدينٍ وكرابطةٍ بين أبناء الأمّة الواحدة التي تدعو الوطنيّات إلى تجزئتها وتقسيمها. ومن ساعد على انتشار الدعوات التي يُطلقها التيار الإسلامي هو فشل الحكومات الوطنية في برامجها التنموية، والتي اتُهمت بالخيانة بعد النكبة الفلسطينية وهزيمتها أمام العصابات الصهيونية.
العالم العربي ومن خلفه العالم الإسلامي يعتبر أنّ الغرب هو سبب تأخّره وهو الذي يمنع تقدّمه وازدهاره
وكما هو معلوم، فإنّ التيار الإسلامي لم يقتصر على مصر والعالم العربي، فكانت الهند مسرحًا لأكثر من جمعيةٍ إسلاميةٍ خصوصًا مع تصاعد الدعوة إلى انفصال المسلمين عن الهند والذين نجحوا في إقامة باكستان عام 1947، وهو عام استقلال الهند وخروج البريطانيين منها. وقد برز بين مسلمي الهند أكثر من داعية، من أبرزهم أبو الحسن الندوي الذي اشتُهر بكتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟". يستعرض الندوي في كتابه الحضارات التاريخيّة وصولًا إلى حضارة الغرب الرّاهنة، التي يرى أنّها ستزول، وأنّ الإسلام سيقود العالم في المستقبل. أمّا في مصر فقد أصدر سيّد قطب كتاب "معالم في الطريق"، يخلص فيه إلى النتيجة ذاتِها وهي أنّ الغرب قد أفلس وحضارته إلى زوال بعد انهيار قيمه وأنّ المستقبل للإسلام عقيدةً ونظامًا.
هذا العداء الإسلامي للغرب، لا يتعلّق بدولةٍ كما كان الصراع خلال الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي ممثلًا بالاتحاد السوفياتي، في مواجهة ما كان يُسمّى بالإمبريالية الأميركية، ولا يتعلّق بصراعٍ اقتصاديّ كما هو حاليًا بين الصين والولايات المتحدة الأميركية. يتعلّق الأمر بمزاجٍ منتشرٍ يُعبّر عن نفسِه بعداءٍ ثقافيّ وأخلاقيّ للغرب، كما يعبّر عن نفسِه بمظاهر كانت اختفت في خمسينيّات وستينيّات القرن العشرين، من الحجاب للمرأة واللّحية والجلباب للرجل إضافةً إلى اكسسوارات طبّ الأعشاب والسواك وعودة الطقوس في المناسبات الدينية. فالعالم العربي ومن خلفه العالم الإسلامي، يعتبر أنّ الغرب هو سبب تأخّره وهو الذي يمنع تقدّمه وازدهاره.
يمكن أن نأخذ مثالًا دعم الغرب، والشرق أيضًا، إقامة دولةٍ استيطانيةٍ على أرض فلسطين ومدّها بأسباب القوّة لتكون متفوّقةً على مجمل الدول المحيطة بها، هو مثالٌ فريدٌ من نوعه في عالمنا المعاصِر.
القوة التي يمكننا أن نجابه بها العالم هي قوة الاقتصاد وقوة السياسة وتقدّم العلوم والصّناعة
إضافةً إلى ذلك، لا يمكننا أن نُنكرَ أنّ علاقة العالم الإسلامي بأوروبا، قبل اكتشاف القارة الأميركية، والتي تعود إلى القرن الثامن الميلادي، تبادل فيها العالمان البضائع والعلوم والحروب. وهي علاقة لا مثيل لها في التاريخ بين عالمين متجاورين. وقبل إقامة الدولة الاستيطانية على أرض فلسطين، شبّه الإمام جمال الدين الأفغاني الاستعمار المعاصِر بالحروب الصليبية كما أسلفنا، مضيفًا على الصراع بُعدًا دينيًا وتاريخيًا. ويمكن أن نضيف أنّ أوروبا الاستعمارية ما كانت تريد أن ترى إلى جوارها دولةً إسلاميةً قويةً مُمثّلةً بالدولة العثمانية، ولا أرادت أن ترى عالَمًا عربيًا موحَّدًا ومستقلًا يقوم عند الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. وهو الأمر الذي تُواصله الولايات المتحدة الأميركية.
كلّ ذلك لا يمكن إنكاره، ولكن لا يمكن أن نجابهه بالنّكوص، وعدم إدراك موازين القوى في العالم. وأن يكون للمسلمين عقيدة يتمسّكون بها فهذا جزء من القوة، إلّا أنّ القوة التي يمكننا أن نجابه بها العالم هي قوة الاقتصاد وقوة السياسة وتقدّم العلوم والصّناعة!.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")