تقدير موقف

الاستثمار العقاري الأميركي للشرق الأوسط.. من آيزنهاور إلى ترامب!

لم آخذ ما طرحه دونالد ترامب - مطلع فبراير/شباط الماضي - حول "شراء غزّة وامتلاكها ومن ثمّ تهجير مواطنيها، وإعادة بنائها مجدّدًا كمنتجعٍ لتصبح ريفييرا الشرق الأوسط"، مأخذ الجدّ. وتصوّرتُ أنّ ردود الفعل العربية والدولية المندّدة هي خير رد على المقترح "الترامبي الفضيحة"، بحسب وصف المستشار الألماني السابق أولاف شولتز.

الاستثمار العقاري الأميركي للشرق الأوسط.. من آيزنهاور إلى ترامب!

اعتبرتُ هكذا حلّ هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه ذهنيّة تتّسم بـ"الصفقاتيّة" (Deal Mentality)، تُدير الشأن السياسي بعناصره المختلفة: المؤسّسية والبشرية والفكرية والعملياتيّة؛ وكأنّها تدير شركةً وهو فيها بمثابة "كبير المُديرين التنفيذيين (CEO: chief executive officer)؛ أو رئيس تنفيذي، يدير الدولة باعتبارها "شركة خاصة مساهمة محدّدة المدّة (أربع سنوات) يهدف خلالها إلى تحقيق أعلى ربح"، وأنّ المواطن لديه هو "حامل أسهم"، وليس صاحب حقّ/حقوق (راجع مقالنا "ترامب بين تحوّلات الداخل الأميركي والصراعات العالمية"، الجزء الأولالجزء الثاني). ومن ثمّ فإنّ الأرض لديه ليست أكثر من أرضٍ تُقام عليها مشاريع للاستثمار العقاري (real estate)، يمكن تفريغها من أصحابها، وترحيل سكانها التاريخيين إلى أي مكان في العالم. فلا الحقّ التاريخي للشعوب ولا ما عانوه من إجحافٍ وإبادةٍ وتدميرٍ له قيمة لدى "المطوّر العقاري" الأميركي الذي تمادى في المقترح بعرضه ما يُطلق عليه "ماكيت" ترويجي للمشروع من خلال فيديو تمّ إطلاقه من على منصة ترامب الاجتماعية في "تروث سوشيال" وتمّ صنعه بتقنية الذّكاء الاصطناعي.

بيْد أنّه لفت نظري، خلال الشهرين الماضيين وأثناء إعداد مقدّمة دراسية لكتابي قيد النشر: "الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية والشرق الوسط"؛ وكنت أنقّب في الكثير من الدراسات والكتب حول الشرق الأوسط، كيف أنّ ما طرحه ترامب مؤخرًا لم يأتِ من فراغ. فهناك تاريخيًّا من كان ينظر للشرق الأوسط باعتباره مشروعًا اقتصاديًا بالدرجة الأولى.

الاستثمار والتطوير العقاري لأراضي الشرق الأوسط أقرب إلى المبدأ الاستراتيجي Doctrine لدى الإدارة الأميركية

بالعودة إلى الرؤية الأميركية للشرق الأوسط والتي بدأت في التبلْور بعد الحرب العالمية الثانية حين كانت الولايات المتحدة الأميركية تستعد لِتَرِثَ القوى الاستعمارية التاريخية: البريطانية والفرنسية من جانب، والحيلولة دون المدّ السوفياتي - آنذاك - من جانبٍ آخر؛ سنجد فكرةً أطلقها الرئيس الأميركي (الرقم 34 إذ تولّى الرئاسة لفترتين من 1953 إلى 1961) دوايت آيزنهاور (1890 ــ 1969) مفادها: ضرورة أن تعمل الولايات المتحدة الأميركية على ملء الفراغ في الشرق الأوسط الذي يمتلك - في المتوسط - 50% من احتياطي النّفط - الغاز في العالم".

في هذا المقام، نقتطف من مذكّرات آيزنهاور: سنوات البيت الأبيض (The Years of White House)؛ في الجزء المُعَنْوَن شنّ السلام (Waging Peace ــ 825 صفحة)، كيف يصف الشرق الأوسط نصًّا كما يلي: "الشرق الأوسط هي الأرض - الجسر الذي يربط بين أوروبا، وآسيا، وأفريقيا. وطأ على ترابه الرحّالة والتجّار، وجيوش الغزاة على مدى قرون. وثلاثة أديان عالميّة تأسّست هناك: اليهودية والمسيحية والإسلام... وتحتضن تربته أكبر مخزونٍ من احتياطي النفط أو "الذهب الأسود".

إضافةً إلى ما سبق نُشير إلى مقولةٍ مهمّةٍ كان يردّدها آيزنهاور بأنّ: الشرق الأوسط أكثر قطعة ذات قيمة للاستثمار العقاري في العالم (Middle East is the most Valuable piece of real estate in the World)؛ في هذا الإطار تمّت صياغة رؤيةٍ تنمويةٍ للشرق الأوسط تضمن: التدفّق المُستدام للطاقة إلى الولايات المتحدة الأميركية، بقاء الإقليم كسوقٍ لتصريف المنتجات، الحضور الفيزيقي/المادي في المواضع الاستراتيجية في الإقليم من خلال القواعد العسكرية والمطلات البحرية والممرّات الحيوية، حصار النهوض الإقليمي المستقل واستدامة الاعتمادية، وأخيرًا إعادة تدوير الفوائض المالية النفطية - الغازية في الاقتصاد الأميركي الأطلسي. وبالطبع، حماية أمن إسرائيل قبل كلّ ما سبق وتعبيد الطريق كي تمارس إسرائيل ما بات يُعرف بردع التوسّع الذي يُمكّنها من الهيمنة: "الطاقوية"، والعسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية على الشرق الأوسط...

المقترح "الترامبي" ما هو إلا امتداد لرؤية أميركية لا تريد أن ترى مصالح وحقوق الشعوب في الاستقلال والتنمية

يُضاف إلى ما سبق، الاستثمار والتطوير العقاري لأراضي إقليم الشرق الأوسط والذي يمكن اعتباره أقرب إلى المبدأ الاستراتيجي (Doctrine)؛ لدى الإدارة الأميركية منذ "آيزنهاور" وحتّى "ترامب"، أخذًا في الاعتبار أن رؤية آيزنهاور كانت أكثر تركيبًا (كي تواجه الرؤية التنموية السوفياتية زمن الحرب الباردة بين المعسكريْن الرأسمالي والاشتراكي التي مالت إلى التصنيع) مقارنةً بالرؤية "الترامبية".

وبعد، إنّ المقترح "الترامبي" الذي لم نأخذه مأخذ الجدّ ما هو إلا امتداد لرؤية أميركية لا تريد أن ترى مصالح وحقوق الشعوب في الاستقلال والتنمية الذاتية الشاملة والمُستدامة والتوزيع العادل للثروة على الأغلبية من المواطنين.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن