وجهات نظر

ترامب بين تحوّلات الدّاخل الأميركي والصّراعات العالميّة (2/2)

تابع العالم حفل تنصيب الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب، في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، بحثًا عن إجابة للعديد من الأسئلة التي شغلت المنظومة الدولية الرسمية والشعبية، والتي من أبرزها ماذا سيفعل "ترامب الثاني" بأميركا والعالم؟ وهل سيختلف "ترامب الثاني" عن "ترامب الأول"؟ وكيف سيتعاطى مع الكثير من الملفّات العالقة داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها؟.

ترامب بين تحوّلات الدّاخل الأميركي والصّراعات العالميّة (2/2)

أجاب ترامب على كل الأسئلة التي شغلت العالم؛ أوّلًا: من خلال الخطاب الذي ألقاه في حفل انطلاقة العهد الثاني من الزمن الترامبي. وثانيًا: من خلال "تسونامي"؛ حسب تعبير "الاستراتيجي الرّوسي الملقّب بـ"عقل بوتين" ألكسندر دوغين؛ ثأري وانقلابي، من المراسيم والقرارات والتصريحات، التي أطلقها في أسبوعين، فقط، كان له من التداعيات السلبية في داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها. 

أولًا: بالنّسبة لخطاب التنصيب؛ فلقد جاء مُحمَّلًا "بنفَس" تصعيدي واضح تجلّى في الإعلان عن اتخاذ العديد من القرارات الانقلابيّة على قرارات الإدارة - الإدارات الأميركية السابقة، فيما يتعلق بالشأنيْن الداخلي والخارجي للولايات المتحدة الأميركية، عَدَّها المراقبون تهديدًا للداخل الأميركي من جهة، وخروجًا على ثوابت الاستراتيجيّة الأميركية تجاه العالم التي التزمت بها الإدارات الأميركية تاريخيًّا على اختلافها السياسي: ديموقراطية كانت أم جمهورية، آخذًا في الاعتبار أنّ الرجل قد انطلق في خطابه من روحيّة الشخص المُنْقِذِ للولايات المتحدة الأميركية من أي استغلال واعدًا الأميركيين بـ"عصر ذهبي جديد".

القيادات التي "تقمّصها" دور "مبعوث العناية الإلهية" تتغافل عن الواقع وموازين القوّة التي تُحرّكه

إذن، عاد ترامب مجدّدًا، متوحِّدًا بفكرة أنّه الرجل الذي لديه قدرة غير محدودة - ليس فقط على إحداث تغيير في الواقع - وإنما أكثر من ذلك بكثير يتمثّل في قناعته الراسخة بأنّه يقوم بعملية أشبه بالخلْق الجديد. وفي هذا المقام، نشير إلى الدراسة الافتتاحيّة لدورية فورين أفيرز (عدد يناير/كانون الثاني – فبراير/شباط 2025) التي كتبتها أستاذة التاريخ العالمي بجامعة أكسفورد، مارغريت ماكميلان، المُعنْوَنة: اختبار ضغط: هل يقدر نظام مضطرب إنقاذ قائد تخريبي؟؛ حيث أشارت إلى ما أطلقت عليه: "أوهام التغيير الجذْري" التي تلبَّست الكثير من القادة عبر التاريخ، انطلاقًا من أنهم "مختارون من القدر"، لتحقيق المعجزات. وكيف أنّ هؤلاء - في الأغلب - لا يقبلون النصيحة ولا يستمعون لخبرات السابقين أو المتخصّصين والأخطر لا يعترفون بالخطأ. ذلك لأنّها - الأوهام - تحول دون أن يرى هؤلاء القادة ما يدور في الواقع من صراعات، كذلك ما يطرأ عليه من تحوّلات.

وتلفت ماكميلان النّظر إلى فكرة معتبَرة مفادها أنّ القراءة التاريخيّة لتجارب القيادات التي "تقمّصها" دور "مبعوث العناية الإلهية" المكلّف بإحداث التغيير، تتغافل عن الواقع وموازين القوّة التي تُحرّكه. إذْ تظن ربّما لأنهم "يمتلكون قوّة استثنائية: إيديولوجية، أو مالية، أو سياسية، أو تكنولوجية؛ فإنّهم قادرون على التّعالي على الواقع ومفارقاته". وتُذكّرنا الكاتبة بـ"هتلر" و"ستالين" وغيرهما.

في الاتجاه نفسه، نشير إلى أنه عشيّة الانتخابات الرئاسية الأميركية قد صدر كتاب قام بتأليفه، البروفيسور هينك دي بيرغ، الأستاذ بكلية اللغات والثقافات بجامعة شيفيلد بالمملكة المتحدة عنوانه: "ترامب وهتلر: دراسة مقارنة في الكذب"؛ يُقدّم قراءة مقارنة لشخصيتَيْ النّازي الأشهر في التاريخ السياسي الرّاهن أدولف هتلر وبين شخصية الرئيس الأكثر جدلًا في وقتنا الرّاهن دونالد ترامب؛ وفيه يتناول الكاتب - أحد المتخصّصين الكبار في الفرويديّة - كلًا من الرّجليْن فيما يتعلق بخطابهما السياسي، بما يلي:

أوّلًا: ممارسة السلطوية المفْرِطة. وثانيًا: تبنّي الشعبويّة المطلقة. وثالثًا: النّزوع إلى الأداءات الجامحة. تلك الملامح التي انعكست في نَمَطٍ من الحكم يتّسم: بالفاشية، والتطرّف، وغرابة الأطوار، والإصرار على الطاعة العمياء والولاء المطلق من قبل المحيطين به الذين يعتبرهم تابعين له شخصيًّا حيث تعتمد العلاقة بينهما على الولاء المطلق. وهو ما ينطبق على ترامب الذي يعتبر موظفي مؤسسة الرّئاسة والحكومة الأميركية موظفين لديه شخصيًّا، أو كما أشرنا قبلًا أنّه يمارس الرئاسة مثلما يدير شركاته أو باعتباره رئيسًا تنفيذيًّا للإدارة الأميركية (راجع الجزء الأول الذي وصفنا به ترامب بأمريْن هما: "ذهنية صفقاتيّة، وسلوك غريزي/غرائبي").

مقاربات كارثيّة تتعلق بالشّرق الأوسط عمومًا والمسألة الفلسطينية خصوصًا

سبَّب خطاب التنصيب "الترامبي" ردّة فعل قلِقَة - في الحدّ الأدنى - من قبل الأميركيين والعالم على السواء؛ فتبدّل الانشغال الأميركي والعالمي الذي تمحوَر حول ماذا فاعل ترامب في عهده الثاني، إلى: ما تداعيات النّزعة الثأرية والتصعيدية والانقلابية التي بات من الواضح أنها ستحكم الأداء الترامبي في عهده الثاني؟

ثانيًا: تسونامي المراسيم والقرارات والتصريحات التصعيدية والثأرية والانقلابية؛ فلم تمضِ ساعات على انتهاء حفل التنصيب حتى سارع ترامب إلى التوقيع على عشرات المراسيم الحكومية التي من شأنها إحداث الكثير من الارتباك الشديد على الأصعدة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية بالنّسبة إلى: أوّلًا: الداخل الأميركي مثل: طرد ملايين اللاجئين غير الشرعيين، وإلغاء حقّ اكتساب الجنسية عبر الولادة للأجانب، والعفو عن مقتحمي الكونغرس المُدانين بأحكام قضائية، وفرض طوارئ وطنية للطّاقة تلغي كل القيود على التنقيب واستخراج النفط والغاز على الرّغم مما سيحدثه ذلك من تلوثٍ بيئي. ثانيًا: العالم من: فرض تعريفة جمركية تصل إلى 25% على السِّلع الواردة من الخارج خاصة من كندا والصّين، والانسحاب من معاهدة باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، إضافة إلى المقاربات الكارثيّة التي تتعلق بالشّرق الأوسط عمومًا والمسألة الفلسطينية خصوصًا. إضافة إلى المعالجة "الصفقاتيّة" المنفردة - بعيدًا عن الأوروبيّين - للملف الأوكراني.

"الأجندة الترامبية" سوف تؤجِّج الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية

فلقد أوجد "التسونامي الترامبي" حالةً من الاستياء، والكراهية، والخوف، والغضب لدى الكثيرين. كما بدا أنّ شعار "أميركا أوّلًا" الذي دغدغ مشاعر الكثير من الأميركيين سوف يرتدّ سلبًا عليهم. إذْ كما تقول دراسة أخيرة، أوَّليَّةُ أميركا المزعومة لا يمكن أن تستقيم مع اتباع الحمائية التجارية في طبعتها "الترامبية" وأنّها سوف تسحب الكثير من رصيد الأفضلية الأميركية الاقتصادية، وتقتطع عمليًّا من الأوّليّة الأميركية. كذلك، أطلق كلّ تناقضات الداخل الأميركية المجتمعيّة من انقسامات وتصدّعات وفجوات واستقطابات وإقصاءات. ما يعني احتمالية حدوث انهيارات في البنية المجتمعيّة القاعدية وتفكيك التماسك المجتمعي.

على خلفية ما سبق، طرح الكثيرون أسئلة متنوعة عديدة عنوانها الكبير: هل تستقيم العودة "الترامبية التسونامية" مع ما يتعرّض له الداخل الأميركي من تحوّلات غايةً في التعقيد من جانب، وما يواجه النظام الدولي من صراعات متشابكة لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تتخلّى فيها عن ممارسة دورها كقوة عظمى من جانب آخر؟ يجيب عن السّؤال الكبير أحد الباحثين من أن "التمادي السلطوي الترامبي بأداءاته الجامحة سوف يكون له تداعيات كارثيّة ليس في داخل الولايات المتحدة الأميركية فقط، بل وفي خارجها. ويبدو أن الرئيس الأميركي الجديد - القديم لا يبالي بإدراك تلك التداعيات أميركيًا وعالميًّا من جهة، وغير معني بفهم تحوّلات الداخل وصراعات العالم من جهة أخرى".

فبالنّسبة للداخل الأميركي هناك يقين، وحسب الكثير من الدراسات، تحوّلات لافتة في عديد السياقات، نجَم عنها خطر مركب نُجْمِلُه في أمريْن هما: أوّلًا: "التصدع القومي/الثقافي؛ ثانيًا: الصراع الطبقي/المجتمعي؛ وهو ما يتجلّى في انقسامات/اختلالات حدّية: طبقية، وجيلية، وإثنية، ومناطقية، وسياسية. أما بالنِّسبة للصراعات الدولية فإنّ "الأجندة الترامبية" سوف تؤجِّج - بالإجماع - الصراعات الجيوسياسية، والاقتصادية العالمية نتيجة للخروج على مبدأ التهدئة الاستراتيجي الذي اتبعته الولايات المتحدة الأميركية مع الصّين منذ كيسنجر، وتحلّلًا من الالتزامات التاريخية حيال الحلفاء الأطلسيين الأوروبيين الغربيين، والمعاهدات الدولية. والهمّ كما اتفقت الكثير من التحليلات في "الوول ستريت جورنال" الأميركية، و"الاندبندنت" البريطانية، وغيرهما، على أنّ الإجراءات "الترامبية" التي تتعلّق بالتعريفة الجمركية من شأنِها أن توجد "أضرارًا بالغة في النظام الاقتصادي العالمي من جهة والنّمو العالمي من جهة أخرى".

أيّ "عصر ذهبي" يطمح إليه ترامب مع هذه البداية التي تحكمها رغبة ثأرية واضحة؟

ويلفت النّظر أكثر من محلِّلٍ استراتيجي إلى العلاقة الوطيدة بين الداخل الأميركي وخارجه، إذ إنّ التعاطي مع تحوّلات/اختلالات الداخل يحتاج إلى هيمنة اقتصادية عالمية من قبل الولايات المتحدة الأميركية (راجع دراسة الانتصار الغريب لأميركا المتكسّرة في عدد يناير/كانون الثاني – فبراير/شباط لدورية "فورين أفيرز"). بلغةٍ أخرى، فإنّ الهيمنة الاقتصادية، والعسكرية والتِّكنولوجية بالتّبعية، تضمن احتواء ما قد ينال من الداخل المجتمعي الأميركي من فوضى ولايَقين واختلال. ويصف أحد أساتذة العلوم السياسية ما سبق بأنها "مفارقة القوة الأميركية".

وبعد، إنّ "ترامب الثاني"، لم يُضِعْ الوقت قط، ففي خلال أسبوعين من عهده الثاني استطاع أن يجعل "التوجّس" يتمكن من الجميع في داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها. وأن يثبت أنّه لم يتعلّم من إخفاقات العهد الأول. والسّؤال أيّ "عصر ذهبي" يطمح إليه ترامب مع هذه البداية التي تحكمها رغبة ثأرية واضحة بدايةً من لغة الجسد الاستعلائية التي تجلّت في حفل التنصيب ثم الممارسات اللّاحقة والمُلاحقة للرجل... والتي، ربما، تشكِّك في إمكانية التصويب... وفي هذا المقام، نشير إلى عبارة جاءت على لسان "ماكبث" في خاتمة المسرحيّة التي تحمل اسمه والتي ألّفها المسرحي العبقري الخالد "وليم شكسبير" (1564 ــ 1616)، تقول: "إنْ هي إلّا أقصوصة يقصها أحمق، بصيحة ضخمة، وكلمات جوفاء، ملؤها الصّخب والعنف، ولا مضمون لها، ومن ثم لا تعني أي شيء"...

وتعليقًا على العبارة السابقة، يقول أحد المتخصّصين في الشأن الأميركي في مقدّمة دراسته المُعنْوَنة: "الترامبية، وتجسيد الأسلوب البارانوياتي"؛ إنّ: "عبقري المسرح الكبير صاحب الحِس الخارق في التنبّؤ، قد تنبّأ لنا بدونالد ترامب" أو بالحالة التي أطلقها بأدائِه الرئاسي السياسي... باعتبارِها "حالة حُمق مُحتدمة تصنع حكاية نبحث لها عبثًا، عن معنى"؛ فلا نجد...!


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن