جرت أحدث محاولة لجسّ النبض وخلط الأوراق، باجتماع سرّي عقدته نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية بحكومة الدبيبة مع وزير الخارجية الاسرائيلي إيلى كوهين في العاصمة الإيطالية روما منتصف أغسطس/ آب.
ولأنّ ردّ الفعل الشعبي الغاضب كان معروفًا سلفًا، فقد كانت طائرة خاصة تنتظر المنقوش فى مطار معيتيقة بالعاصمة طرابلس لتنقلها إلى تركيا وسط حراسة رسمية، بينما كان الدبيبة جاهزًا بقرار إقالتها من أمام سفارة فلسطين، بعد ساعات فقط من إيقافها عن العمل وإحالتها للتحقيق، فى "إجراء ورقي" فقط لا يعدو كونه محاولة لامتصاص الغضب الذي شهدته العاصمة طرابلس وعدة مدن أخرى في غرب البلاد احتجاجًا على لقاء روما.
الأمر كلّه دُبّر بعناية وفقًا لما ترويه عدة مصادر رسمية في الحكومة الليبية وأخرى إقليمية
تذكّر الدبيبة بشكل مفاجئ أنّ المنقوش قليلة الخبرة، قبل أن يقدّمها "قربانًا" للمحتجين الغاضبين من سوء إدارته واستمراره رغم ما جرى ويجري في البلاد.
يبرهن التسلسل الزمني للأحداث، على أنّ الدبيبة والمنقوش كانا يعرفان مسبقًا النتائج الشعبية المحتملة وكانا مستعدين تمامًا لها، على أمل أنها سرعان ما تنتهي وتبقى طيّ النسيان.
بالطبع لم يكن الدبيبة ساذجًا، فالأمر كلّه قد دُبّر بعناية وفقًا لما ترويه عدة مصادر رسمية في الحكومة الليبية وأخرى إقليمية.
ذهب الدبيبة إلى عين العاصفة وهو يدرك جيدًا التبعات، لكنّ من أجل الاحتفاظ بمنصبه ورئاسة الحكومة، فإنه كان مستعدًا لـ"التحالف مع الشيطان"، كما كان جاهزًا للتضحية بالمنقوش والإطاحة بها مقابل بقائه هو في سلطة صارت مترنّحة بعد تراجع رصيدها بشكل مطّرد في المجتمع الليبي.
ورغم الاحتجاجات العارمة التي تخلّلتها أعمال شغب وفوضى وحرق طالت مقرّات للحكومة واستراحات شخصية للدبيبة وبعض معاونيه، فقد كانت التعليمات المسبقة لمختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للدبيبة هي بعدم التدخل والامتناع عن مواجهة المتظاهرين على أمل أن تصل الرسالة إلى واشنطن بأنه مستعد لدفع الثمن مهما كان، حتى لو أدى ذلك إلى دفع المنطقة الغربية إلى حافة الجحيم.
اتفق بيرنز مع الدبيبة على سيناريو يتضمن عدة مراحل تمهيدية، وصولًا إلى التطبيع بين طرابلس وتل أبيب
القصة كلّها بدأت بالزيارة النادرة التي قام بها وليام بيرنز، رئيس المخابرات الأمريكية، للعاصمة الليبية مطلع هذا العام واستغرقت يومًا واحدًا، حيث اجتمع مع الدبيبة بعدما التقى المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني المتمركز في شرق البلاد.
اتفق بيرنز مع الدبيبة على سيناريو يتضمن عدة مراحل تمهيدية، وصولًا إلى التطبيع الكامل بين طرابلس وتل أبيب بهدف تسويق هذه الصفقة إلى الرأي العام الليبي وبيعها له.
وفقًا لهذا الاتفاق، أجرى علي العابد، وزير العمل بحكومة الدبيبة، زيارة إلى الأردن ثمّ إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث التقى في الزيارة الرسمية الأولى لوزير ليبي لرام الله بمسؤولين في السلطة الفلسطينية بدعوى البحث عن عمالة فلسطينية وتعزيز التعاون المشترك.
وظهر العابد أمام المسجد الأقصى في القدس المحتلّة بالزيّ الليبي الشعبي، بعد لقائه في رام الله الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزرائه محمد اشتية، علمًا بأنّ دخول الأراضي الفلسطينية يقتضي التواصل مع الحكومة الإسرائيلية التي تتحكّم في المعابر والمنافذ.
بترتيب مسبق، انضمّت حكومة اشتية لحكومة الدبيبة في الترويج لقصة دخول العابد عبر معبر الكرامة المشترك مع الأردن ونفي أي صلة للاحتلال الاسرائيلي، لكنّ القصة لم تنطلِ على أحد. كما أوفد الدبيبة محمد الرعيض، رئيس اتحاد الغرف التجارية الليبية، في زيارة مماثلة تمهيدًا لما هو قادم.
لم يكن اجتماع روما السري الذي كشفت عنه تل أبيب بين المنقوش وإيلى كوهين وزير خارجية إسرائيل، هو الأول من نوعه بين مسؤولي الطرفين، فقد سبقته اجتماعات أخرى كان طرفًا واحدًا منها على الأقل حسين العايب رئيس جهاز الاستخبارات التابع لحكومة الوحدة.
الدبيبة الذي يُعتبر أحدث مسؤول عربي يسعى للحاق بقطار التطبيع الذي تعثّر تحت وطأة الجمود الراهن في القضية الفلسطينية، سبق له أن نفى لقاءه مسؤولين إسرائيليين في الأردن، مشيرًا إلى أنّ ذلك لم يحدث ولن يحدث في المستقبل: "موقفنا ثابت وواضح من القضية الفلسطينية".
لكنّ المؤكد أنه اجتمع مع رئيس جهاز المخابرات الاسرائيلية، بطلب أمريكي في عمان على الرغم من هذا النفي، بحسب مصادر ليبية متطابقة.
وكتعبير عن الرفض الشعبي للتطبيع، نظّم "تحالف ليبيون ضد التطبيع" خلال شهر مارس/ آذار الماضي وقفة احتجاجية بالعاصمة طرابلس تحت شعار من أجل المسجد الأقصى والقدس وفلسطين رفضًا للتطبيع مع الكيان الصهيوني، فيما رصدت استطلاعات للرأي رفض الغالبية العظمى من الشعب الليبي التطبيع والاعتراف بالدولة العبرية.
وبينما لم يتّفق الليبيون فيما بينهم على مدى السنوات الـ12 الماضية على شىء واحد، فقد وحّدهم رفض التطبيع والعداء لاسرائيل، ورفعوا في احتجاجات اجتاحت المدن الليبية شعار"لا لا للتطبيع.. الشعب الليبي مش حيبيع".
المساعي الأمريكية لتوريط الدبيبة لإقامة علاقات مع إسرائيل، هي بمثابة اصطياد في المياه العكرة التي تشهدها ليبيا بعد مرور نحو 12 عامًا على الإطاحة بنظام حكم العقيد الراحل معمر القذافي، واستغلال حالة الفوضى التي تعيشها وانعدام وجود حكومة موحّدة.
الدبيبة الذي يحظى بدعم أمريكي وبريطاني، يرفض محاولات مجلسي النواب والدولة تشكيل حكومة جديدة في البلاد، مستندًا على حماية الميلشيات المسلحة التي تسيطر فعليًا على مقاليد الأمور فى الغرب الليبي.
برهن الليبيون أنّ القوى الشعبية العربية منفصلة تمامًا عن قطار التطبيع الرسمي مع تل أبيب
وليس من هكذا وضع أفضل بالنسبة لإسرائيل كي تحاول مجددًا تشتيت الانتباه عمّا يجري في فلسطين المحتلّة، باتصالات مع حكومة الدبيبة التي انتهت مدّتها الشرعية، على أمل أن تصبح ليبيا الدولة العربية السابعة التي تقيم علاقات واتصالات رسمية معها.
في كل الأحوال، برهن الليبيون أنّ القوى الشعبية العربية منفصلة تمامًا عن قطار التطبيع العربي الرسمي مع تل أبيب، الذي كتب نهاية مأسوية للمنقوش، كأول امرأة ليبية تتولى منصب وزيرة الخارجية فى ليبيا.
النيران الغاضبة التي أنارت ليل المنطقة الغربية في ليبيا لم تطل التواجد العسكري لتركيا ولا جيش المرتزقة السوريين الموالي لها هناك، لكنها أحرقت دعاة التطبيع... ولو إلى حين.
(خاص "عروبة 22")