فلسطين... القضية والبوصلة

"لعنة غزّة"... لا أمان ولا نسيان!نحو تحالف مُستدام للمحاسبة ووقف الإفلات من العقاب

كما لاحقت لعنة المحرقة النّازية ضباطًا وجنرالات وسياسيين ومتعاطفين لعقودٍ بعد سقوط هتلر وانتهاء الحرب العالمية الثانية، يجب أن تصبح "لعنة غزّة" سيفًا أخلاقيًا وقانونياً مُسلّطًا على رقاب جنود وضباط وسياسيي الاحتلال الإسرائيلي، الذين شاركوا بوعيٍ وتخطيطٍ في أكبر عملية إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين.

الإبادة في غزّة ليست حدثًا استثنائيًا عابرًا، بل لحظة كاشفة لسقوط النظام الدولي الذي تشكّل بعد الانتصار على النّازية وكان أحد عناوين انتصاره استمرار المُلاحقة في كلّ مكان بالعالم لكلّ من شارك وتعاطف مع هذا الجرم النازي الذي يتطابق في منطلقاته العنصرية وجرائمه الكبرى ونزعه الصفة الإنسانية عن الآخرين مع الإجرام الصهيوني الموثّق في المنطقة العربية.

لكنّ هذا النظام، بما يملكه من أدوات، مَنَح ما يشبه الحصانة لكيان الاحتلال، ما جعل جريمةً ضدّ الإنسانية تُرتكب في غزّة على الهواء مباشرةً، وسط عجزٍ أمميّ كاملٍ عبر تسعة عشر شهرًا متصلة. وفي مواجهة هذا الانهيار، لا تملك الشعوب والأصوات الحرّة سوى أدواتِها: التوثيق، المُحاكمة، الفضح، والملاحقة. لكن هذه الأدوات لا تكون فعّالةً إلا حين تتكامل وتتحوّل إلى تحالفٍ دوليّ أخلاقيّ مُستدامٍ، يتجاوز الجهود الفردية والموسمية، ويجعل من لعنة غزّة ملاحقةً قانونيةً وأخلاقيةً تُلازم الجناة مدى حياتهم، وتحرمهم من الأمان والنسيان.

الجرائم ضدّ الإنسانية لا تسقط بالتقادم والعدالة قد تتأخر لكنها قابلة للتحقّق

عقب الحرب العالمية الثانية، لم تتوقّف ملاحقة مجرمي الحرب النازيين بانتهاء محاكمات نورمبرغ، بل بدأت معها مسيرة طويلة استمرّت لعقودٍ، سعت خلالها منظّمات وهيئات إلى تعقّب ومحاكمة النازيين الفارّين من العدالة. وقُدّمت آلاف الملفات إلى المحاكم الأوروبية، ونجحت هذه الجهود في إدانة العشرات، على الرَّغم من مرور سنواتٍ طويلةٍ على جرائمهم. ما أثبت باليقين أنّ الجرائم ضدّ الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وأنّ العدالة قد تتأخر، لكنها قابلة للتحقّق إذا وُجد الإصرار والذاكرة الحيّة والمؤسّسات القادرة.

وعلى الرَّغم من فداحة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزّة، لم تتشكّل بعدُ جبهةٌ موحّدةٌ تُكرّس نفسَها لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم. ومع ذلك، برزت في السنوات الأخيرة مبادرات ومنظمات فاعلة، تُمثّل نواةً لتحالفٍ أكبر، على رأسها مؤسسة "هند رجب" التي تأسّست عقب استشهاد الطفلة هند رجب في غزّة فيما العالم كلّه يسمع همسها المرتعش واستغاثتها الأخيرة، وتعمل على توثيق أسماء الجنود الإسرائيليين المتورّطين في الجرائم باستخدام تقنيات الذّكاء الاصطناعي وتحليل البيانات المفتوحة.

المطلوب تأسيس تحالف دوليّ أخلاقيّ قانونيّ سياسي إعلامي يُعزّز جهود التقصّي والتوثيق وجمع الأدلة

كما قُدّمت ملفاتٌ إلى "المحكمة الجنائية الدولية" تتضمّن تحديد هوية نحو ألف جندي. ونجحت في غضون أشهرٍ أخرى في إزعاج كيان الاحتلال وجنوده، وملاحقتهم في أوروبا وأميركا اللاتينية، ليشعر كل جندي فرد في جيش الإبادة بأنّه مهدّد بالملاحقة والتوقيف. ومبادرة "غلوبال 195" التي أطلقها المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين (ICJP) في لندن، تهدف إلى ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين عبر مبدأ الولاية القضائية العالمية، وقد جمعت بالفعل أكثر من 135 شهادةً موثّقةً من غزّة، مدعومةً بأدلةٍ رقميةٍ ومفتوحة المصدر، والتحالف الدولي القانوني بقيادة "ICJP" وهو تحالف يضم حقوقيين ومحقّقين سابقين في الشرطة البريطانية لتجهيز ملفاتٍ قانونيةٍ مكتملةٍ ضدّ السياسيين والقادة العسكريين الإسرائيليين، لتقديمها إلى المحاكم الأوروبية والدولية. ومعها الكثير من المنظمات الحقوقيّة الفلسطينيّة مثل "الضّمير"، و"الميزان"، و"الحق"، و"الهيئة المستقلة"، و"القانون من أجل فلسطين" وهي مؤسّسات تعمل منذ سنوات على أرشفة الجرائم، وجمع الأدلّة القانونية، وتقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية، على الرَّغم من صعوبة الوصول الميداني وتحدّيات التوثيق في ظلّ الحصار والحرب.

وعلى الرَّغم ممّا تحققه تلك الجهود من إزعاجٍ وتهديدٍ للرواية الصهيونية، وللاستقرار النّفسي للجنود الصهاينة المجرمين وقادتهم، وما حققته هذه الرواية حتّى الآن، إلّا أنّها تبدو كجُزُرٍ متناثرةٍ ومنعزلة، وطاقاتها محدودة في مواجهة خصمٍ مدعومٍ سياسيًا وإعلاميًا وقانونيًا. والمطلوب اليوم هو تأسيس تحالفٍ دوليّ، أخلاقيّ، قانونيّ، سياسي وإعلامي، يضمّ المنظمات الحقوقيّة، والمراكز البحثيّة، والمؤسّسات الإعلامية، وخبراء القانون الدولي، ونشطاء العدالة، يجمع الجهود ويوزّعها وينسّقها ويضمن القوة والاستدامة والنفَس الطويل، ويفتح أواصر التعاون مع المؤسّسات الدولية والحقوقية في الغرب ويُوسّع شبكة محاميه في كل العالم، ويُعزّز جهود التقصّي والتوثيق وجمع الأدلة، من أجل هدفٍ واحد: أن تصبح "لعنة غزّة" حقيقةً قانونيةً وأخلاقيةً تلاحقُ كلّ من شارك في الجريمة، وتنزع عنهم شرعية الوجود الآمن في هذا العالم.

يجب أن تلاحق لعنة غزّة كل من شارك في إبادة الفلسطينيين

تحالفٌ لا يكتفي برفع الشعارات، بل يُصدر قوائم بأسماء الجناة من الجنود والسياسيين، ويدعم الدعاوى القضائية، ويضغط على البرلمانات والحكومات، ويوظّف الأدلة والتقنيّات واللغة القانونية والإعلامية والديبلوماسية في آنٍ واحد.

كما لاحقت لعنة المحرقة أعداء اليهود، يجب أن تلاحق لعنة غزّة كل من شارك في إبادة الفلسطينيين. هذه ليست دعوةً إلى الانتقام، بل دعوةٌ إلى العدالة... وتأسيسٌ لذاكرةٍ حيّة، تُدافع عن الإنسانية من الانهيار الأخلاقي المكتمل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن