تشمل الصناعات والمشروعات الصغيرة والمتوسّطة في الريف، الصناعات التحويلية للمنتجات والخامات الزراعية، كما يمكن أن تتضمّن أيضًا صناعاتٍ ومشروعاتٍ توفّر سلعًا وخدماتٍ للمناطق الريفية، وفي الوقت عينه قد تشمل تصنيعًا لمنتجاتٍ غير زراعيةٍ موجهةٍ للأسواق الحضرية والتصدير، ولكنها تستفيد من الميزات الاقتصادية للرّيف مثل رخص الأيدي العاملة ووفرة الأراضي والخامات والموروث الثقافي والحِرفي.
وتمثّل المشاريع الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصّغر أبرز أدوات استيعاب القوى العاملة وتقليل البطالة ورفع الأجور في المناطق الرّيفية، إضافةً إلى تعزيز الحِرف المحلية التي تُشكّل امتدادًا حيًّا للموروث الثقافي والاجتماعي المتجذّر في الأرياف العربية، والتي من خلالها يتمّ الحفاظ على الحِرف والمنتجات التقليدية ممّا يجعلها عنصرًا أساسيًا للحفاظ على الهوية الثقافية للريف.
الصناعات الريفية الصغيرة والمتوسطة تُساهم في تقليل الهجرة إلى المُدُن ونقل الخدمات إلى المناطق المُهمّشة
وتلعب المشاريع الصغيرة والمتوسطة دورًا محوريًا في تمكين المرأة الريفية وتحسين أوضاعها الاقتصادية وتعزيز مشاركتها في التنمية، كما تساهم في تعزيز القيمة المُضافة للمنتجات الزراعية عبر التصنيع الزراعي أو تقديم الخدمات للأنشطة الزراعية مثل التسويق والنقل، وتعزيز جودة وكميّات الإنتاج عبر تقديم تقنيات جديدة.
فضلًا عن ذلك، فإنّ الصناعات الصغيرة والمتوسطة في الرّيف لها ميزة كبرى هي صغر الرّأسمال المخصّص لكلّ عاملٍ مقارنةً بالصناعات الكبيرة الأمر الذي يعني أنّها لا تحتاج إلى رؤوس أموالٍ ضخمة، وفي الوقت ذاتِه فإنّها تستند لموارد ومهاراتٍ وخبراتٍ موجودةٍ أصلًا في الريف، ولكن لا يتمّ توظيفها في الأغلب بشكلٍ اقتصاديّ عِلميّ سليم.
كما أنّ الصناعات الريفية والزراعية الصغيرة والمتوسطة تُساهم في تقليل الهجرة إلى المُدُن ما يخفّف من اكتظاظها ويساعد على الحفاظ على البنية الاجتماعية والتماسك الاجتماعي في الريف، إضافةً إلى أنّها تُساهم في نقل مظاهر التمدّن والحضارة والخِدمات إلى المناطق الريفية المُهمّشة.
وفي هذا الصدد، أفاد تقريرٌ صادرٌ عن "التحالف من أجل ثورة خضراء في أفريقيا" (AGRA) بأنّ ملايين الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تتعامل مباشرةً مع ملايين المُزارعين الصغار في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يُحدث نشاطها "ثورةً هادئةً" في قطاع الزراعة الأفريقي، حيث تربط المُزارعين الصغار بالأسواق التجارية بوتيرةٍ غير مسبوقة.
يجب توفير برامج تدريبية مُتخصّصة لأصحاب المشاريع للتغلّب على القصور في القدرات الفنية والتّكنولوجية
من هذا المُنطلق كان هناك تركيزٌ واضحٌ من قبل الحكومات العربية في إطار مساعيها لتطوير الاقتصاد وتحقيق التنمية المُستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، على الدور المهمّ الذي تقوم به المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بخاصة في الدول التي تعاني من محدوديّة الموارد ويكون الاستثمار الأمثل فيها هو في تنمية الموارد البشرية، كما هو الحال في مصر، التي حققت دوراتٍ من النموّ الاقتصادي انطلقت من الرّيف من خلال مشاريع صغيرةٍ ومتوسطةٍ كانت مُحرّكًا رئيسيًا لعملية التحوّل الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة للعديد من الأُسَر التي كانت تُكابد الفقر.
وهناك أيضًا العديد من التجارب الناجحة في دولٍ عربيةٍ أخرى مثل "مشروع التنمية الاقتصادية الريفية في الأردن" وجمعية "مدائن الخضراء" في العراق ومشروع "جود للتنمية الريفية" في السعودية و"مبادرة أكاسيا للجميع" في تونس ومؤسسة "الأطلس الكبير" في المغرب.
وفي لبنان، هناك تجارب يقودها القطاع الخاص لتقديم الصّابون المحلّي العريق وغيرها من المُنتجات التقليدية كسلعٍ فاخرةٍ للاستفادة من إرث لبنان وبلاد الشام العريق في هذه الصناعات.
على الحكومات العربية الاهتمام بالبنية التحتية للمناطق الريفية وتشجيع التعاون بين القطاعين العام والخاص
وعلى الرَّغم من إدراك الحكومات العربية لأهمية التوسّع في تلك المشروعات كأداةٍ للتنمية الريفية المُستدامة ودعم الاقتصاد القومي، فإنّه ما زال هناك العديد من التحدّيات والمشاكل التي يجب على الدول العربية معالجتها، ومن أهمّها توفير التمويل اللّازم لتلك المشاريع وإنشاء مؤسساتٍ تمويليةٍ مُتخصّصةٍ تُوَفّر القروض المُيَسَّرَة للشباب والمزارعين والمرأة الريفية. ويجب أن تراعي هذه المؤسّسات التمويلية الطبيعة الخاصة للريف العربي وحاجته إلى أساليب تمويلية تلائم ثقافته وقدرات سكانه المالية.
كما يجب إيلاء أهمية خاصة للتدريب عبر توفير برامج تدريبية مُتخصّصة لأصحاب المشاريع وذلك للتغلّب على القصور في القدرات الفنية والتّكنولوجية لمشاريعهم والتي تعتمد غالبيتها على تكنولوجيّات متواضعة تُضعف الإنتاجية والجودة ممّا ينعكس على صعوبة التسويق والمنافسة في الأسواق المحلية والدولية.
ويمكن في هذا الإطار، أن تؤسّس الحكومات مشروعاتٍ نموذجيةً اختباريةً، وبعد التأكّد من نجاحها في ظروفٍ مشابهةٍ للظروف الواقعية، يمكن تعميمها على نطاقٍ واسعٍ تحت رعاية وتوجيه الأجهزة الحكومية المختصّة.
كما ينبغي على الحكومات العربية الاهتمام بالبنية التحتية للمناطق الريفية والتي تُمثّل عائقًا أمام نموّ وتطوّر المشاريع الزراعية وكذلك تطوير وتشجيع التعاون بين القطاعين العام والخاص والمنظّمات غير الحكومية للنهوض بتلك المشاريع.
يجب تحويل الصناعات الريفية الصغيرة والمتوسطة إلى حلقة فعالة في سلاسل التوريد الصناعية الوطنية
ومِن الأهمية بمكان ملاحظة أنّه لا يمكن تحقيق نهضةٍ في الصناعات الصغيرة والمتوسطة في المناطق الريفية من دون مشاركة أهالي هذه المناطق عبر تعزيز دور الروابط والجمعيّات ومنظمات المجتمع المدني المحلية لمعرفة مدى تقبّل السكان للأساليب المعتمدة في هذه المشروعات، كما أنّ هناك ضرورة للرّبط بين القطاع الخاص المُنخرط في هذه الصناعات الريفية الصغيرة والمتوسطة وبين الشركات الخاصة الكبيرة في المدن عبر علاقةٍ تعاقديةٍ ترعاها الدولة وتمنع الاحتكارات وتحول دون استغلال الشركات الكبرى للمصنّعين الصغار.
في هذا الإطار، يجب تحويل الصناعات الريفية الصغيرة والمتوسطة إلى حلقةٍ مُهمّةٍ وفعالةٍ في سلاسل التوريد الصناعية الوطنية مع ضمان تمثيل مصالح المصنّعين الريفيين الصغار والمتوسطين بشكلٍ متناسب.
(خاص "عروبة 22")