اقتصاد ومال

الاقتصاد السياسي الجديد للشرق الأوسط"سوريا الجديدة" ووساطة السعودية ومصالح ترامب

محمد زاوي

المشاركة

المصلحة محركٌ قديمٌ للفعل التاريخي، والحديث هنا عن المصلحة في مختلف تجلّياتها الاعتبارية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية... إلخ. وما يُميّز مصالح شرطنا الحالي أنّها أصبحت أكثر ارتباطًا بالاقتصاد السياسي والجغرافيا السياسية. فعالم اليوم لم يعد يسمح بعلاقاتٍ على أساس العِرق واللغة والدّين والثقافة فحسب، والصراعات السياسية والحروب العسكرية نفسها لم تعدْ كذلك. هذه العوامل هي اليوم مجرد قابليات تُستثمر جيوسياسيًا واقتصاديًا، تُخاطبها هذه الدولة أو تلك لغرضٍ ملموسٍ مرتبط بربحٍ اقتصادي أو سياسي.

الاقتصاد السياسي الجديد للشرق الأوسط

السؤال المطروح هنا: لماذا أصبحت العلاقات الدولية كذلك بعد أن كانت تتدخّل فيها - بل تحكمها أحيانًا - عوامل أخرى ثقافية وإيديولوجية وحضارية؟ والجواب هو سيطرة النظام الاجتماعي الرّأسمالي ومنظومته الفكرية والسياسية والإدارية الحديثة. إنّه نظامٌ قائمٌ في جوهره الاقتصادي على الرّبح وإنتاج فائض القيمة وتبادله، وفي منطقه قائم على الحساب؛ والحساب سِمة حداثية، حسب عبد الله العروي في "مفهوم الدولة". إلّا أنّه أصبح أكثر تعقيدًا من الحسابات التي اتّسم بها النظام الرّأسمالي في بداياته (تجربة نابوليون بونابارت مثلًا، وهي التجربة التي تناولها العروي في كتابه المذكور).

إدارة ترامب تسعى إلى قطع الطريق على تغوّل الصين اقتصاديًا في الشرق الأوسط

لم يعِ الكثيرون هذا التحوّل، بخاصة تلك الحركات والسياسات التي تؤسّس فعلها على مداخل وأُسُسٍ عقديةٍ وحضارية، وتلك التي تعلّق على الأحداث بعيْن الإيديولوجيا لا بعيْن "التحليل الملموس للواقع الملموس" بتعبير فلاديمير لينين. وعندما نستحضر هذا الأخير فنحن بصدد أحد الأوائل الذين انتبهوا إلى التحوّل الذي عرفته السياسة في ظلّ النظام الاجتماعي الرّأسمالي؛ وهو ما اختصره بقوله: "السياسة هي التعبير المكثّف عن الاقتصاد". الذين غاب عنهم هذا الفهم، كثيرًا ما تتعرّض طموحاتهم وقراءاتهم للخيبات في زمن الناس هذا. فما إنْ يتعلّقون بنموذجٍ في الديموقراطية أو "الثورة" أو الدعوة الإيديولوجية، وما إنْ يطمئنّون لهذا النّموذج أو ذاك، حتّى تتحطّم آمالهم الإيديولوجية على وقع تحوّلاتٍ تصبّ في مصلحة هذه القوة أو تلك.

ما يقع في الشرق الأوسط اليوم نموذجٌ لهذا التحوّل الذي تعرفه العلاقات الدولية في علاقتها بالربح الاقتصادي والمكاسب الجيوسياسية. ما تريده إدارة دونالد ترامب هو ردع يمين "إسرائيل" ودفع استراتيجية إيران التوسّعية للتراجع وربط علاقاتٍ اقتصاديةٍ قويةٍ بالفاعلين الأساسيين في المنطقة. إنّها بسياستها الجديدة - القديمة (بدأت مع ولاية ترامب الأولى) تسعى إلى قطع الطريق على تغوّل الصين اقتصاديًا في الشرق الأوسط، أو على الأقل منافستها منافسةً قويةً في سوقه.

هذه السياسة الأميركية ليست وليدة طموح ترامب وشركاته كما تروّج بعض المنابر، وليست طموحًا نفسيًا يريد به ترامب حيازة جائزة "نوبل" للسلام كما تروّج منابر أخرى؛ وإنّما للأمر علاقة بتحوّل اقتصادي حاسم تعرفه الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أنّ روّاد الرّأسمال الأميركي الأكثر "تعقلًا" ووعيًا بمستقبل مصالحه (الرّأسمال الصّناعي المدني) انتبهوا إلى أنّ "اقتصاد السيطرة" سرعان ما يستحيل خرابًا في الداخل، وسرعان ما ينتهي بتفجير التناقضات الاقتصادية والسياسية في "بلاد العم سام".

ولا يُؤتي هذا الانسحاب من استراتيجية "اقتصاد السيطرة" أُكُله في الشرق الأوسط إلّا بهندسة هذه المنطقة هندسةً جيوسياسيةً واقتصاديةً جديدةً، وبإشراك الفاعلين الرئيسيين فيها. وبالتالي فإذا كانت السعودية، الدولة النافذة اقتصاديًا وجيوسياسيًا في مُحيطها؛ إذا كانت قادرةً على استيعاب سوريا الجديدة ضمن خطة: ردع "اليمين الإسرائيلي"/ مواجهة التوسّع الإيراني/ فتح السوق السورية للاستثمار الأميركي وحلفائه/ الانخراط في مسار "اتفاقيات أبراهام"؛ إذا كانت السعودية قادرةً على هذه المهمّة، فإنّ التعامل مع سوريا يجب أن يتخذ منحًى آخر هذه عناوينه:

- دفع الجهات المناوئة لدولة أحمد الشّرع داخليًا إلى المصالحة والتهدئة. وقد حدث ذلك مع فصائل عسكريةٍ ذات ولاءاتٍ خارجيةٍ مختلفة، ويحدث بالتدريج مع "قسد" (قوات سوريا الديموقراطية)، وربّما قد يحدث مع "الدروز" بضغط أميركا على "إسرائيل"، كما قد يؤمن "جانب العلويين" باتفاق أميركي - إيراني.

ما يريده ترامب أن تدخل "سوريا الجديدة" ضمن استراتيجية المجمع الصناعي المدني في الشرق الأوسط

- رفع العقوبات الاقتصادية عن "سوريا الجديدة"، في أفق انفتاحها على الشركات العربية والغربية (خصوصًا الأميركية) واستثماراتها في مجالات التجهيز والبناء وتطوير البنيات التحتية والتنقيب عن النفط والغاز والمعادن والريّ والزراعة واستيراد المنتوجات الصناعية المدنية.

- ردع "اليمين الإسرائيلي" في الحدود مع سوريا، وهذا هو دور الفاعل التركي ومساعداته العسكرية لدولة أحمد الشّرع، بما فيها المساعدات الاستخباراتية ورغبة تركيا في تشييد قاعدةٍ عسكريةٍ في سوريا. ويبدو أنّ ترامب لا يرفض ذلك، شريطة أن يتمّ بالاتفاق مع "إسرائيل"؛ وهذا ما يُستنتج من توجيهٍ مباشرٍ فاجأ به ترامب نتنياهو في لقائهما الأخير.

لا مشكلة لترامب مع وحدة سوريا واستقرارها، بل إنّه يريد ذلك؛ ولا مشكلة له مع قيادة أحمد الشّرع وإدارته لـ"سوريا الجديدة"، بل قد يساهم في إنجاح هذا المسار. كلّ ما يريده ترامب أن تدخل "سوريا الجديدة" ضمن استراتيجية المجمع الصناعي المدني في الشرق الأوسط من جهة، وضمن الاستراتيجية العربية في المنطقة ذاتها من جهة أخرى. ومهمّة الدولة السعودية أن تأخذ بيد الشّرع لخوض هذا الغمار.. ومن دون ذلك سيناريو: بقاء سوريا في منطقة الغموض وفي مهبّ الرياح الآتية من الشرق والغرب!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن