مؤخّرًا، وفي موقفٍ نادرٍ، لوّحت الصين بالعصا الغليظة عندما هدّدت بالانتقام ممّا وصفته بالتواطؤ مع الولايات المتحدة لتقييد التجارة معها وعزلها، وتوعّد المتحدّث باسم وزارة التجارة الصينية "الدول التي قد تنصاع لواشنطن بإجراءاتٍ مضادّةٍ حازمة". جاء ذلك ردًّا على التقارير حول خطط إدارة ترامب للضغط على بعض الدول لتقييد التجارة مع الصين مقابل الإعفاء من الرسوم الجمركية الأميركية.
وبينما قد يكون هناك تسوية حول الحواجز الجمركية العالية بين العملاقَيْن الاقتصاديَيْن لأنّها مضرّة بكليهما بشدّة (خصوصًا مع توصّلهما لاتفاقٍ مؤقت)، فإنّ الجولة المقبلة للحرب التجارية قد تشهد محاولة واشنطن دفع شركائها التجاريين لعزل بكين، وانتقامًا صينيًا مضادًّا... وسيكون على العالم العربي مثله مثل بقيّة كُتل العالم أن يُحاول تقليص خسائره من هذه الحرب ومحاولة اقتناص بعض المكاسب.
الصين الشريك التجاري الثاني للدول العربية وواشنطن هي شريك العالم العربي السياسي والعسكري والأمني الأهمّ
يختلف وضع العالم العربي في هذه الحرب عن معظم كتل العالم الأخرى، فمن ناحيةٍ باتت معظم الدول العربية الأكبر اقتصاديًا مرتبطةً تجاريًا بشكلٍ كبيرٍ بالصين لأنّ النفط والغاز هما أهم صادراتها بينما الصين أكبر مستوردٍ لهما.
في المقابل، فإنّ الولايات المتحدة مُصَدِّرٌ صافٍ للنفط والغاز الأمر الذي يقلّل من حجم الصادرات العربية إلى واشنطن، بخاصة أنّ الدول العربية ليست من بين المُصنّعين العالميين الكبار للسلع المصنّعة مثل الدول الآسيوية والأوروبية التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على التصدير إلى السوق الأميركية العملاقة.
ولكن على جانبٍ آخر، فإنّ العالم العربي يرتبط بعلاقةٍ ماليةٍ وسياسيةٍ وأمنيةٍ وثيقةٍ مع واشنطن عبر أرصدة دول مجلس التعاون الخليجي الخارجية وربط عملاتها بالدولار، وكذلك المساعدات الأميركية للعديد من الدول العربية إضافة إلى النّفوذ السياسي والعسكري الأميركي الهائل في المنطقة التي تعتمد أبرز دوله على واشنطن سواء كمَصْدَرٍ للحماية لبعضِها ومصدرٍ للتسليح للعديد منها.
ويبلغ إجمالي التبادل التجاري بين الولايات المتحدة الأميركية والدول العربية نحو 127 مليار دولار عام 2024 حسب أرقام مجمّعة عبر الذّكاء الاصطناعي من إحصاءات مكتب التجارة الخارجية الأميركي.
وتبلغ الصادرات الأميركية إلى العالم العربي نحو 68 مليار دولار مقابل نحو 58.8 مليار دولار صادرات عربية إلى الولايات المتحدة التي تحقّق فائضًا قدره نحو 9.3 مليارات دولار في الميزان التجاري، علمًا أنّ هذه الأرقام لا تشمل الخدمات التي تميل عادةً للجانب الأميركي بشكلٍ كبير.
في المقابل، بلغ إجمالي التبادل التجاري بين الصين والدول العربية نحو 271 مليار دولار في عام 2023، وِفق إحصاءاتٍ صينية وأمميّة مجمّعة عبر الذّكاء الاصطناعي، منه صادرات عربية للصين بنحو 111 مليار دولار مقابل واردات تُقدّر بنحو 160 مليار دولار أي أنّ الصين تحقق فائضًا في التبادل التجاري مع العرب يُقدّر بنحو 59 مليار دولار.
هنا يُلاحظ أنّ التبادل التجاري بين الصين والدول العربية يفوق تبادل الأخيرة مع الولايات المتحدة بنحو 100 مليار دولار، إذ تُعدّ الصين الشريك التجاري الثاني للدول العربية بعد الاتحاد الأوروبي الذي تبلغ تجارته مع المنطقة نحو 317.7 مليار دولار، مع ملاحظة أنّ تجارة بكين لها أهمّية خاصة للمشرق العربي وتحديدًا دول الخليج والعراق.
مقابل ذلك، فإنّ واشنطن هي شريك العالم العربي السياسي والعسكري والأمني الأهمّ، حيث تُعدّ منطقة الشرق الأوسط من أهمّ ساحات النّفوذ الأميركي، كما هو معروف.
يمكن دفع الشركات الصينية لبناء صناعات حقيقية في المنطقة وليس مجرّد تصدير أو عمليات تجميع شكليّة
وهذا يجعل قدرة معظم الدول العربية على الاختيار بين هاتَيْن القوتَيْن العظميَيْن صعبةً إن لم تكن مستحيلة. وهناك حاجة لأن تُحوّل الدول العربية هذا المأزق إلى فرصة.
أولى الفرص، محاولة الاستفادة من ضآلة الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخّرًا على أغلب الدول العربية نظرًا لمحدوديّة صادراتها إلى أميركا، ويمكن أن يساعد ذلك على زيادة صادرات بعض الدول العربية ذات القاعدة الإنتاجية الجيّدة إلى الولايات المتحدة بطرقٍ عدّة، بما فيها جذب شركاتٍ من دولٍ فُرض عليها رسوم مرتفعة من دون استفزاز واشنطن.
على جانبٍ آخر، من المتوقّع أن تضغط واشنطن على الدول العربية لتقليل نفاذية السلع الصينية لأسواقها وهي مسألة حسّاسة بخاصة للدول النفطية لأنّ بكين قد تردّ بإجراءاتٍ مضادّةٍ تُقلّل واردات الطاقة من الدول العربية.
لذا فإنّ المرجّح أن تحاول الدول العربية مقاومة هذا التوجّه، ولكن يمكنها الاستجابة له جزئيًا بشكلٍ لا يكون هدفه الانصياع لواشنطن بقدر ما يكون هدفه حماية المُنتجات الوطنية من تدفق السّلع الصينية، ودفع الشركات الصينية للاستثمار في الدول العربية بدلًا من الاكتفاء بتصدير منتجاتها.
يمكن أن تحاول الدول العربية ربط السماح بتدفّق الاستثمارات الصينية بنقلٍ حقيقيّ للتكنولوجيا
وقد تحاول واشنطن أيضًا تقييد الاستثمارات الصينية في الدول العربية، بخاصة في الاتصالات، وهنا أيضًا يمكن أن تحاول الدول العربية الاستفادة من الأزمة عبر دفع الشركات الصينية لبناء صناعاتٍ حقيقيةٍ في المنطقة وليس مجرّد تصدير أو عمليات تجميع شكليّة، خصوصًا أنّ سياسة الاستثمار الصينية شديدة التوجّس من نقل شركاتها للتكنولوجيا إلى الخارج وحريصة على أسرار صناعاتها بشكلٍ مبالغ به إذ يسيطر عليها "فوبيا" أنّ الدول سوف تقتنص التّكنولوجيا من شركاتها العاملة في الخارج مثلما فعلت هي مع الشركات الغربية والآسيوية، لدرجةٍ أنّ مجموعةً من المؤثّرين المِصريّين في مجال السيارات كانوا في رحلةٍ مؤخّرًا إلى الصين، منعتهم شركات السيارات الصينية من التصوير داخل مصانعها خوفًا من نقل أسرارها.
وبالتالي يمكن أن تحاول الدول العربية استغلال الضغوط الأميركية بأن تربط السماح بتدفّق الاستثمارات الصينية بنقلٍ حقيقيّ للتكنولوجيا، خصوصًا أنّ إمكانيات الوطن العربي التّكنولوجية تعني أنّه ليس في وارد أن يكون في وقتٍ قريبٍ منافسًا صناعيًا للصين مثل الهند أو روسيا أو دول جنوب شرق آسيا.
ويجب أن يترافق ذلك مع حثّ بكين على توفير فرص تدريبٍ للفنيين العرب وبعثاتٍ للأكاديميين للاستفادة من النهضة الصينية.
ومن المهمّ أيضًا حثّ الصين على تقديم مساعداتٍ وقروضٍ مُيَسَّرَةٍ للدول العربية غير النفطية وليس قروضًا بشروطٍ تجارية، كما تفعل حاليًا، باعتبارها أكبر مُصَدّر للمنطقة وأكبر مستورِدٍ للطاقة منها، وهذا يعني أنّها تستفيد من استقرارها وسلامة الممرّات الملاحية فيها.
يحتاج الأمر إلى مقاربة يتعامل فيها العرب ككتلة واحدة مع أميركا والصين لتعزيز قوتهم التفاوضية
على الجانب الآخر؛ فإنّ الضغوط الأميركية المتوقّعة على الدول العربية لتقييد التعامل التقني والاقتصادي مع الصين، إذا تمّ الاستجابة لها، فيجب أن يكون ذلك جزئيًا، وأن يتمّ مقابل ميزات أميركية تكنولوجية واقتصادية لها، بما في ذلك المجالات التّقنية التي يبدو أن هناك حظْرًا غربيًا غير رسمي على تصديرها للدول العربية خدمةً لإسرائيل، أو السعي للحصول عليها من بكين في حال تمنّع واشنطن.
إنّ مثل هذه المقاربة للنّجاة من الحرب التجارية والجيوسياسية الضّروس بين الصين وأميركا تحتاج إلى مهارةٍ سياسيةٍ عالية، ولقد بدأت مصر ودول خليجية تقوم بذلك بالفعل. كما يحتاج الأمر إلى مقاربةٍ يتعامل فيها العرب ككتلةٍ واحدةٍ مع الدولتَيْن، لتعزيز قوتهم التفاوضية، ولكنّ الأهمّ أنّ هناك حاجةً لتفعيل قدرة الشركات والمؤسّسات العلمية والتقنية العربية على اقتناص مكاسب في الاقتصاد والتّكنولوجيا من بين أنقاض هذه الحرب الضّروس.
(خاص "عروبة 22")