ربّما كان من باب المصادفة، وهي كذلك قطعًا لكنّها دالّة في الوقت ذاتِه، أنّ القمة انعقدت في الذكرى الثمانين لإنشاء الجامعة (1945). يومَها كان "الاتحاد العربي" ضمن الأسماء المقترحة للكيان الوليد على طاولة "إنشاص" المِصرية حيث جرى توقيع ميثاقها، بيد أنّ هناك فيما يبدو من ارتأى، بإدراكٍ مبكرٍ أو من دونه، أنّ في الاسم المقترح تفاؤلًا، قد لا يسمح به الواقع، على الرَّغم من كل الرّوابط الثقافية واللّغوية والسياسية التي تحدّث عنها الميثاق، فكان أن استقرّ الأمر على أن يكون الاسم الرسمي (والفعلي، كما أثبتت الأيام) هو جامعة "الدول" العربية. ولأنّ "الدّولة" في العُرف العربي هي الحكومة، أو الحاكِم، إنْ أردنا الدقّة، فقد بتنا بصدد جماعةٍ للحكام العرب، ينالها بالتبعية ما ينال روابطهم من تباينات، وحسابات، وتنافسات، ويعلق بها ما يعلق بثيابهم، وما تخفيه جيوبهم وعباءاتهم.
هل سيترك النظام العربي مكانه لنظام "شرق أوسطي" تُحاول إسرائيل بناءه لصالح هيمنتها؟
لم يكن "الغياب" في القمّة، أو عنها، هو بحساب مَن غاب أو مَن حضر، بل بالأحرى بحساب ما غاب من تأثيرٍ ليس فقط لمثل تلك الاجتماعات "على مستوى القمّة"، وما يصدر عنها من بياناتٍ وقراراتٍ تفتقر عادةً إلى آلية التنفيذ، أو بالأحرى إلى "الإرادة" اللازمة لوضع تلك المقررات في مكانها الضروري في تلك اللحظة المفصلية التي تُرسم فيها خرائط "شرق أوسطية" لعالمنا الذي كان "عربيّا". أو الذي أسمَيْناه هكذا في إنشاص قبل ثمانين عامًا، مُدركين المعايير الثابتة في التاريخ والجغرافيا لأمننا القومي.
بعد ثمانين عامًا من الحلم والمُحاولة، هل سيترك النظام العربي مكانه لنظام "شرق أوسطي" تُحاول إسرائيل بناءه لصالح هيمنتها؟ أحسب أنّ هذا سؤال المرحلة. وأحسب أنّنا جميعًا نتحمّل مسؤولية الإجابة، أو بالأحرى ما ستكون عليه الإجابة.
لا أريد التذكير بعديد القرارات والبيانات، التي لم تغادِر نصوصها صفحات الصّحف، وملفات أرشيف الجامعة في مبناها القديم على نيل القاهرة. ولكن يكفينا، على سبيل المثال لا الحصر، أن نتذكّر مصير 23 بندًا (أكرّر: 23 بندًا) تضمنّها بيان قمّة القاهرة الاستثنائية (مارس/آذار 2025)، والتي جاءت استكمالًا لِقِمّتَي الرياض (نوفمبر/تشرين ثاني 2023 و2024) والتي كان من المفترض أنّها عُقدت لمواجهة خطّة ترامب "الإسرائيلية" لتفريغ غزّة من سكانها. جاء بيان القمة، كما سابقتيْها خاليًا من الإشارة إلى أدوات الضّغط التي يمكن اللّجوء إليها في التعامل مع الطرف الإسرائيلي - الأميركي الذي كان من المتوقّع أن يرفض قراراتِ القمّة جملةً وتفصيلًا، وهو ما حدث بالفعل بعد ساعات من اختتامها.
لم تشهد الدول العربية حروبًا بينها مثلما شهدت أوروبا والأوروبيّون يتحدثون 24 لغة لا لغة واحدة كما يتحدّث العرب
وكانت النّتيجة النهائية أن ذهبنا إلى بغداد نحمل "ورقة" بيان القاهرة، في حين نرى الإسرائيليين "على الأرض" ماضين في تنفيذ خطّتهم بجعل غزّة أرضًا محروقةً غير قابلةٍ للعيش، ونسمع الرئيس الأميركي يكرّر أنه ما زال متمسكًا بخطّته "العقارية"؛ منتجعًا، أو منطقة تجارةٍ حرّةٍ على المتوسط. ولا عزاء للعدل، أو القوانين الدولية، أو حقّ الشعوب في تقرير مصيرها.
يكفينا أن نتذكّر أيضًا مصير "مبادرة السلام العربية"، التي أعلنها العرب في قمّتهم البيروتية (2002)، والتي تقوم على مبدأ "الأرض مقابل السلام"، بمعنى مقايضة التطبيع مع العدو بانسحابه من الأراضي "المحتلة"، بما يسمح أوّلًا: بسلام (عادل، وحقيقيّ)، وثانيًا: بإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلّةٍ قابلةٍ للحياة على الأراضي التي احتلّتها إسرائيل عام 1967.
أتفهم ألّا يعبأ الإسرائيليون؛ مُتغطرسين بقوّتهم، بمثل هكذا مبادرة "عربيّة". ولكن أن يضعها بعضُ من اعتمدها من "الزعماء العرب" أنفسهم في سلّة المهملات راكضين إلى تطبيعٍ و"اتفاقات إبراهيمية"، لم يكونوا في حاجةٍ إليها، فهذا أمرٌ آخر، وله توصيفٌ آخر.
المقارنة بين ما وصلت إليه جامعة الدول العربية وبين ما صار إليه الاتحاد الأوروبي فيها الإجابة الحاسمة
في مِثل هذه الأيام قبل عشرة أعوام بالضبط، كانت الجامعة العربية، التي لم تُفلح أن تكون "جامعةً للعرب" تحتفل بعيدها السبعين، وكانت مصر لأسبابٍ ليس هنا مجال الخوْض فيها تحاول تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك (1950)، وقرارات القمّة العربية بإنشاء "قوةٍ عربيةٍ مشتركة". وكان رؤساء أركان الجيوش العربية قد وصلوا فعلًا إلى القاهرة للمشاركة في الاحتفال بتوقيع البروتوكول، والذي كان مُقرّرًا له أن يتمّ في مقرّ الجامعة في السابع والعشرين من أغسطس/آب 2015 إلّا أنّ أسبابًا تتصل بالنّفوذ و"المكانة الإقليمية" لهذا أو ذاك، كانت وراء قرارٍ مفاجئٍ صدر "فجأةً" عشية التوقيع بإرجاء إنشاء القوة العربية المشتركة تلك "لأجلٍ غير مسمّى"، فكان أن اكتفى العسكريون رفيعو المستوى الذين كانوا قد ذهبوا فعلًا إلى القاهرة بغنيمة الإياب، وكان أن اكتفى الصحافيون بنشر بنود البروتوكول؛ الذي لم يوقّع أبدًا.
لم تكن الواقعة المبكرة التي تزامنت مع الاحتفال السّبعيني بأقلّ دلالةٍ من الغياب "الملوكي/الرئاسي" عن قمّة بغداد، التي تزامنت بالمصادفة مع الاحتفال الثمانيني.
على الرَّغم من مناكفاتٍ "جاهلية"؛ شخصية أو قبلية، لم تشهد الدول العربية حروبًا بينها مثلما شهدت أوروبا التي كانت ميدانًا لحربَيْن عالميتَيْن بين دولها، دعك من تاريخٍ طويلٍ لحروب الامبراطوريات والعصور الوسطى. ناهيك عن حقيقة أنّ الأوروبيّين يتحدثون 24 لغة (رسمية)، لا لغة واحدة "جامعة" كما يتحدّث العرب. على الرَّغم من هذا، وغيره الكثير لا مجال للمقارنة بين ما وصلت إليه جامعة الدول العربية (في الثمانين من عمرها)، وما وصل إليه الاتحاد الأوروبي الذي يعود تاريخ إنشائه رسميًا إلى نوفمبر/تشرين ثاني 1993. يكفيك فقط أن تلحظ أنّ القمم الأوروبية على الرَّغم من افتقارها إلى البيانات الإنشائية المطوّلة، وإلى فخامة القاعات والثريّات في قممنا العربية تُحدث عادةً "أثرًا على الأرض". كما يكفيك أن تتذكّر أن "المواطنين" الأوروبيين يتنقّلون بين دول الاتحاد المختلفة من دون الحاجة إلى تأشيرات. هل شاهدتم فيلم دريد لحام "الحدود"؟.
80 عامًا مضت على محاولة العرب إنشاء كيان إقليميّ توافرت له كل أسباب "الاتحاد" من لغة وثقافة وهدف مشترك
صحيحٌ أن حال الجامعة، كمنظمة "دول" هي من حال أعضائها؛ فشلًا، أو هوانًا، أو انعكاسًا لصراعات؛ داخليةٍ أو اقليميةٍ على المكانة والنفوذ. ولكن من الصحيح أيضًا أنّ الأسباب، التي تعود مسؤوليتها قطعًا إلى الأنظمة، لا غيرها معروفة: "غياب الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة". وأحسبُ أنّ المقارنةَ بما صار إليه الاتحاد الأوروبي، على الرَّغم من لغاته الأربع والعشرين، وتاريخه الموغل في الدماء، فيها الإجابة الحاسمة.
لن يتّسع المجال هنا قطعًا لمثل تلك المقارنة الموجعة في تفاصيلها. ولكن في الإشارة ما قد يكون كافيًا، ونحن نحتفل، أو نتذكّر أنّ ثمانين عامًا مضت على محاولة العرب إنشاء كِيانٍ إقليميّ، توافرت له كل أسباب "الاتحاد" من لغةٍ وثقافةٍ وهدفٍ مشتركٍ (لو أحسنّا النظر، وصدقت النوايا). وكان الأجدر بمثل هكذا كيان أن يجد له مكانه الذي يليق في هذا العالم المُضطرب.
ليتها كانت جامعةً "للشعوب" التي أتعبها الانتظار على "الحدود"؛ تاريخًا... وجغرافيا.
(خاص "عروبة 22")