بصمات

القهوة... بصمة عربيّة على الثقافة العالمية!

من الأمور التي يتنازل عنها العرب في عصرنا هذا، توثيق تراثهم العالمي والافتخار به، والترويج له، على الرَّغم من مشاركتهم في تطوير الكثير من الأشياء التي دخلت في سجلّ التراث العالمي. هنا تبدو قصّة انتشار البُنّ في صدارة القصص التي يجب أن تُحكى وتُحفر في الذّاكرة العالمية، ففضلًا عن التأكيد على الدور العربي في نشر اكتشاف البُنّ وصناعة القهوة ونشر ثقافتها عالميًا، تبدو صناعة هذه القصة عربيةً شارك فيها أكثر من قُطْرٍ عربيّ، فتقف كدليلٍ على إمكانات التعاون المشترك بين الأقطار العربية على المستوى الاقتصادي والثقافي لإبداع ظواهر لا توحّد مزاج الشعوب فقط، بل تضع بصمتَهم على الثّقافة العالميّة كلّها.

القهوة... بصمة عربيّة على الثقافة العالمية!

انتشار مشروب القهوة العربية في العالم، جاء بمجهودٍ عربيّ مشترك، فالبداية من بلاد اليمن التي عُرف فيها البُنّ والقهوةُ لأوّل مرة، ومنها انتشر هذا المشروب السحري. وأهل اليمن أوّل من أطلقوا على الشجرة وثمارها مسمّى "البُنّ"، وعند تحويلها إلى شرابٍ تُسمّى "قهوة"، والتسمية الأخيرة انتشرت من العربية إلى مختلف لغات الدنيا، بتحريفٍ بسيطٍ "Coffee"، وذلك عبر الوسيط العثماني.

إطلاق مُسمّى القهوة على مشروب البُنّ هو مُسمّى عربي أصيل

يُثبت الاسم أنّ هذه التسمية عربية لا شكّ فيها، على الرَّغم من أنّ بعض الأصوات تقول إنّ أصْل شجرة البُنّ من إثيوبيا، إلّا أنّ زراعتها وانتشارها كمشروبٍ لم يُعرف إلّا في اليمن، حيث لعبت الجماعات الصّوفية دورًا رئيسيًا في نشر ثقافة تناول القهوة، عبر شبكةٍ من الحركات الصّوفية المُترابطة والمنتشرة على رقعة العالم العربي كلّه.

اللّافت هنا إطلاق مُسمّى القهوة على مشروب البُنّ، وهو مُسمّى عربي أصيل كان من أسماء الخمرة قديمًا، لكنّ استخدام المُسمّى كان من باب التسمية بالضدّ على عادة العرب، فإذا كانت الخمر تُذهب العقل فالبُنّ يعمل على تنبيه العقول، وهي عادةٌ عربيةٌ قديمةٌ بتسمية الشيء بنقيضه، كتسمية الفتاة شديدة الجمال بـ"قبيحة"، والعبد الأسود بـ"كافور" وهو نبات شديد البياض.

لعبت مصر دورًا أساسيًا في نشر ثقافة البُنّ واحتساء القهوة، بدايةً من أواخر العصر المملوكي، فمنطقة الحجاز كانت تابعة لمصر وقتذاك، وتحت أعين أمراء المماليك بدأت ثقافة احتساء القهوة تدخل مكّة المُكرّمة عن طريق الحجّاج اليمنيين. فالتقارير المُرسَلة من الحجاز إلى سلطان المماليك في مصر، تتحدّث عن جلساتٍ يشرب فيها المجتمعون مشروبًا جديدًا في ما يشبه جلسات شاربي الخمْر، وأنّ المشروب الجديد يُباع في أماكن تُشبه الخمّارات، ثم سرعان ما انتشر شربها في القاهرة، وهنا بدأت السلطات في منعها اعتقادًا أنّها في حكم الخمر.

وبدأ بعدها جدال فقهي كبير استمرّ لمدّة قرنٍ كاملٍ، بحسب محمد الأرناؤوط في دراسته (التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي)، حول تحريم مشروب القهوة أو تحليل شربه، وصدرت كتبٌ عدّة تدافع عن القهوة أو تهاجمها بلا تحفّظ. وانتقل هذا الجدال إلى الدولة العثمانية التي سيطرت على مصر ومعظم العالم العربي منذ العام 1517، لكنّ إسطنبول لم تقاوِم سحر القهوة العربية كثيرًا، فسقطت في غوايتِها، كما القاهرة من قبل، فأصبحت في المدينتَيْن أعداد لا نهائية من الحوانيتِ التي تُقدّم المشروب، ضاربةً عرض الحائط بفرمانات التحريم. ومن هنا ظهرت إلى الوجود "المقاهي"، وهي الأماكن المخصّصة لتقديم وشرب القهوة.

لا مبرّر لعربيّ أن يُطلق على مشروبٍ اكتشفه العرب وصنعوه مسمًّى آخر غير مسمّى القهوة العربية

وبحسب دراسة الدكتور ناصر إبراهيم (آداب وطقوس شرب القهوة في القاهرة العثمانية)، أصبح البُنّ سلعةً استراتيجيةً، إذ أصبحت مصر منصّة تصديره إلى أوروبا، عبر استيراده من اليمن وتجميعه في مصر وتصديره، بجوار إنتاج مصر الضّخم من السّكر المُستخلص من القصب. اللّافت هنا أنّ استهلاك المصريين للبُنّ كان كثيفًا، إذ لم تتمّ إعادة تصدير إلّا ربع ما يتمّ استيراده من اليمن، أي أنّ أغلبية الكمّية كانت تُستهلك داخل مصر التي وقع أهلها في غَرام القهوة، الأمر الذي دفع "كلوت بك" في القرن التاسع عشر إلى القول إنّ القهوة هي "الشراب المُختار عند المصريين".

على الرَّغم من كلّ تلك التفاصيل التي تؤكّد على عربيّة البُنّ والقهوة، إلّا أنّها لا تكاد تُذكر، بل يُقدّم باسم "القهوة التركية"، فدور الدولة العثمانية في نشر هذا المشروب أوروبيًا معروف، وإنْ كانت مصر لعبت الدور نفسه تقريبًا، خصوصًا أنّ تصدير البُنّ لأوروبا كان يمرّ عبر مصر. لكن لا مبرّر لعربيّ أن يُطلق على مشروبٍ اكتشفه العرب وصنعوه واخترعوا تقاليد شربه والاستمتاع به وتفنّنوا في صناعته بأكثر من شكلٍ وطريقةٍ، مسمًّى آخر غير مسمّى القهوة العربية.

هذه صورة أساسية من صور الاعتزاز بالذّات، وتقوية الارتباط بالتاريخ بجانبه الإبداعي، وصنع هويةٍ إيجابيةٍ قائمةٍ على التعاطي الحضاري، وهي روحٌ نحتاجها بشدّة في هذه الأيام.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن