التعليم والسياسات التربوية

عودة "الكتاتيب"! نهاية التعليم الحديث وإعلان تخلي الدّولة عن دورها

لم يكن اقتراح العودة إلى "الكتاتيب" في مصر مجرّد اجتهادٍ فرديّ من وزير الأوقاف أو تعبيرًا عابرًا عن حنينٍ ثقافيّ إلى التُراث، بل بدا هذا التوجّه، الذي بدأت عجلاته تدور فعليًا، يتجاوز مجرّد الترقيع لواقع التعليم المُتردّي، ليكشف عن خللٍ أكثر عمقًا، ويبعث بإشارةٍ سياسيةٍ ثقيلةٍ تعكس هشاشة التصوّر الحديث للدولة، وتآكل قدرتها على أداء وظائفها الأساسية، وفي مقدّمتها: التعليم.


عودة

"الكتاتيب" تنتمي إلى سياقٍ اجتماعيّ ودينيّ سابقٍ لنشأة الدولة الوطنية الحديثة. واستدعاؤها اليوم ليس مجرّد بحثٍ عن حلولٍ بديلةٍ، بل هو اعترافٌ ضمنيّ بانسحاب الدولة من ساحة التعليم، وترك المجتمع يبحث عن بدائل تقليديةٍ غير مؤهّلة، تستند إلى منطق خارج الزمن، وخارج تعاقد الدولة الحديثة مع مواطنيها.

إنّ العودة إلى "الكتاتيب"، بما تُمثّله من نموذجٍ تعليميّ ما قبل حداثي، تُعبّر عن استسلامٍ واضحٍ لفشل الدولة في تقديم تعليمٍ عامٍّ، مجانيّ، علميّ، حديثٍ، ومُتاحٍ للجميع.

فكرة تُعبّر عن انهيار ثقة الدولة بمؤسّساتها واعتراف بفقدانها الرّغبة في تمويل التعليم

وبدلًا من الاعتراف بهذا الفشل ومُساءلة أسبابه البنيوية، من فسادٍ وتمويلٍ وهشاشة تخطيطٍ، يتمّ القفز إلى الماضي، واستدعاء نموذجٍ تراثيّ في محاولةٍ بائسةٍ لإضفاء شرعيةٍ دينيةٍ على عجزٍ مؤسَّسيّ مُزمن.

فكرة "الكتاتيب"، إذ تُطرح بهذا الشكل، تُعبّر عن انهيار ثقة الدولة بمؤسّساتها، واعترافٍ بفقدانها القدرة أو الرّغبة في تمويل التعليم كحقٍّ، أو حتّى رؤيته كوظيفةٍ سيادية.

المشكلة إذًا ليست في الكتاتيب كتراث، بل في الدولة كمفهوم 

نحن في مواجهة لحظة تَحوُّلٍ عميقٍ في طبيعة الدولة، من دولةٍ ذات مشروعٍ وطنيّ مدنيّ، إلى كِيانٍ إداريّ ينكمش دورَه، ويُعيد تفويض وظائفه للمجتمع، سواء عبر السّوق أو المؤسّسة الدينية أو البنى التقليدية.

هذا الانكماش لا يقتصر على التعليم، بل يتكرّر في الصحة، والنّقل، والإسكان، وحتّى الأمن الغذائي. لكن التعليم يحتلّ موقعًا رمزيًا ومصيريًا خاصًا، لأنه بوّابة بناء الإنسان، والإنسان هو المادة الخامّ لأي نهضة.

مَن يُسيطر على التعليم يَمتلك مستقبل الأمّة 

تُربط أزمة التعليم كثيرًا بضعف التمويل، وهذه نصف الحقيقة. أمّا نصفها الآخر، فهو غياب الإرادة السياسيّة، وتشوّش الرؤية، وسوء الأولويّات، وفساد الإدارة. ليست المشكلة في نُدرة الإمكانات، بل في سوء توزيعها، والتفكير في عودة الكتاتيب - بدلًا من إصلاح المدارس، وتأهيل المعلّمين، وتحديث المناهج - يكشف غياب الإرادة لا الإمكانات فقط.

هي تعبيرٌ عن ذهنيةٍ ترى التعليم لا كأداةٍ للتحرير والنهضة، بل كعبءٍ زائدٍ عن الحاجة، يمكن استبداله بأطرٍ أقلّ تكلفة، وأكثر انسجامًا مع سرديات الطاعة والامتثال.

الأخطر من ذلك، أن تتحوّل الكتاتيب من بديل تقليدي إلى خيار رسمي

لسنا أمام إصلاح، بل أمام تأسيسٍ لنظامٍ تعليميّ طَبَقِيّ مزدوجٍ: تعليم خاص للطبقات القادرة، وتعليم ديني تقليدي للطبقات الفقيرة. هذا النظام يُعيد إنتاج الجهل باسم الدّين، ويُقصي العقل باسم الحفظ، ويُكرّس الانفصال بين المواطن والدولة.

بهذا المعنى، نحن لا نفقد فقط مضمون التعليم، بل نفقد معنى المواطَنة ذاته. فالمدرسة الحديثة ليست مجرّد مبنى، ولا مجرّد قناةٍ لتلقين المعلومات. إنّها أداة الدولة المركزية في إنتاج المواطن، وفي إدماج الفرد داخل الهوية الوطنية. حين تتخلّى الدولة عن المدرسة، أو تُفكِّكها، أو تُهمِّشها لصالح بدائل تقليدية، فإنّها لا تتنازل عن وظيفةٍ تعليميةٍ فحسب، بل تُسقط ركيزةً من ركائز شرعيّتها.

المدرسة، كما فهمها مفكرو الحداثة من دوركايم إلى ألتوسير، ليست محايدة

إنّها تمارس وظيفتها من خلال رمزية الانضباط، ومنظومة القيم، وبنية المناهج، وحتّى طقوس الطابور والنشيد والعلَم، هي البوّابة التي يدخل عبرها الطفل إلى عالم الدولة الحديثة، ويخضع - طوعيًّا أو قسرًا - لمنطقها.

في غياب هذه المدرسة، أو في انحسار دورها، تحكم الدولة أجسادًا لا تنتمي، وتُخاطب عقولًا لا تتشكّل، وتُدير مجتمعًا بلا مواطنين، بل أفرادًا مُنقسمين على أسسٍ دينيةٍ أو طبقيةٍ أو طائفيّة. هكذا لا تكون الدولة قد أخلّت بوظيفتها فقط، بل فقدت القدرة على إعادة إنتاج نفسها.

أزمة التعليم في مصر هي انهيار في قدرة الدولة على إنتاج الهوية الجامعة وإفلاس في أدوات تشكيل المواطن

ولهذا، فإنّ الحديث عن الكتاتيب أو التعليم الموازي أو الخصوصي، لا يدور في فلك الإصلاح، بل يعكس مسارًا تفكيكيًّا يُهدّد فكرة الدولة الحديثة في أصلها.

الدولة التي لا تملك مدرسة وطنية جامعة، لا تملك وطنًا موحّدًا، ولا تملك مستقبلًا

انهيار التعليم الحديث لا يُبقي فراغًا، بل يفتح الباب أمام بدائل غير عقلانية: الكتاتيب، المعاهد العشوائية، التعليم الخصوصي، القنوات الدّينية، والميديا الفوضويّة، كلها لا تنتج وعيًا وطنيًا، بل وعيًا مجزّأً، انعزاليًا، مشحونًا بالتعصّب أو الاستلاب، وهذه كلّها أدوات ضد الدولة، لا في صفّها.

أزمة التعليم في مصر ليست مجرّد تراجع في المؤشرات أو هبوط في ترتيب عالمي، بل هي انهيار في قدرة الدولة على إنتاج الهوية الجامعة، وإفلاس في أدوات تشكيل المواطن.

التنازل عن المدرسة هو في جوهره تنازل عن الدولة، لا عن مؤسّسة فقط، وكلّ محاولة للترقيع عبر بدائل تراثية أو تجارية أو دينية، لا تُصلِح الخلل، بل تُفاقِمه، لأنها تُرسّخ الانقسام، وتُجهض مشروع الدولة الوطنية من جذوره.

المدرسة - أيضًا - هي المختبر الأول للوحدة الوطنية، والتجربة الجماعية الأولى في الانتماء

من دونها، تتحوّل الهوية إلى شعارٍ أجْوَف، وتُستبدل بالجماعات الصغرى: الطائفة، القبيلة، الدّين، السّوق. وتفقد الدولة بذلك الحقل الوحيد الذي تُنتِج فيه لحمتها.

لهذا كلّه، فإنّ المدرسة ليست خدمةً عامةً، بل هي العمود الفقري لفكرة الدولة. وسقوطها ليس مجرّد عرض، بل عنوان لفقدان الدور، وتحلّل المعنى، وتآكل الشرعية. ومن هنا، تصبح العودة إلى الكتاتيب، لا مجرّد اقتراحٍ عارضٍ، بل تجليًا لغياب المشروع الوطني الجامع.

الصّراع بين مشروع وطنيّ يؤمن بالعلم والحرية وبين منظومة تسعى إلى إعادة إنتاج الطّاعة

قد يبدو هذا الاقتراح غير قابلٍ للتنفيذ عمليًا، لكنه في الحقيقة يعكس ما هو أخطر: أن تكون الدولة قد توقّفت عن فهم دورها، وانسحبت من أداء وظائفها.

أزمة التعليم ليست سؤالًا عن المناهج أو الأبنية أو المعلمين فقط، بل عن معنى الدولة: هل ما زالت تؤمن بمستقبلٍ مشترك؟ أم تخلّت عن الإنسان، واكتفت بإدارته؟.

في لحظةٍ كهذه، لا يكون الصّراع بين الكتّاب والمدرسة، بل بين مشروعٍ وطنيّ يؤمِن بالعلم والحرية، وبين منظومةٍ تسعى إلى إعادة إنتاج الطّاعة عبر قوالب تقليدية.

من يفقد المدرسة يفقد المواطن، ومن يُقوّض المواطَنة يُقوّض الدولة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن