أشعل وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان؛ المشهد الإسرائيلي الداخلي الذي هو متفجر بالأساس، بتصريحاته لهيئة البث الإسرائيلية حول موافقة رئيس الوزراء على نقل أسلحة إلى (عشيرة أبو شباب)، التي وصفها بالعصابة الإجرامية المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش". ليبرمان الذي يرأس الحزب المعارض "إسرائيل بيتنا"، اتهم دائرة ضيقة من الحكومة تضم رئيس الوزراء والرئيس السابق للشاباك رونين بار، بأنهما وراء إمداد "العصابة" الفلسطينية بالأسلحة دون علم المجلس المصغر "الكابينت"، كما شكك في علم رئيس الأركان وقائد الجيش عن الأمر.
هناك توثيق مصور لبعض من عناصر هذه المجموعة الفلسطينية، بالقرب من معبر "كرم أبوسالم" الحدودي الخاضع للسيطرة العسكرية الإسرائيلية، الذي تدخل منه المساعدات الشحيحة في حراسة بعض الأفراد الفلسطينيين يحملون "أسلحة كلاشنكوف". المعلومات تفيد بأن ياسر أبو شباب يقود هذه المجموعة ـ الكبيرة نسبيا ـ التي يختلف تقييم انتماءاتها، فهي في نظر رئيس الوزراء الإسرائيلي وأجهزة الأمن العام فصيل مناهض لـ"حماس" ولسلطتها داخل القطاع، وقد يكون من المفيد خلق ودعم مكون مسلح موازٍ داخل القطاع، ينزع من قبضة "حماس" أفضلية السيطرة وتوزيع المساعدات الإنسانية. لذلك لم ينفِ مكتب نيتانياهو ما كشفه ليبرمان، فيما جاء تعليقه بأن إسرائيل "تعمل على هزيمة "حماس" بوسائل مختلفة، بناء على توصيات جميع قادة الأجهزة الأمنية".
على جانب آخر تأتي الرواية الحمساوية، متهمة تلك المجموعة بالعمالة الكاملة لإسرائيل بدليل ظهور بعض عناصرها الملثمة والمسلحة، وهم يقومون بتفتيش المباني المهدمة في غزة قبل دخول وحدات الجيش الإسرائيلي لها. وهناك معلومات كشفتها مصادر من "حماس"، تفيد بأن هذه الميليشيا ـ كما تسميها ـ تضم نحو 300 شخص، يقودها بالفعل "ياسر أبو شباب" حيث سجل أول ظهور مسلح لها في مايو 2024 بمدينة رفح جنوب القطاع، مما دفع "حماس" إلى تنفيذ عدد من عمليات الاغتيال بحق عناصرها، والتأكيد أن قرارا مركزيا باستهدافها جرى اعتماده داخل قيادة الحركة، خاصة أن هناك خلافات سابقة بين هذه المجموعة "السلفية" وبين الحركة، سبقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
عدد الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا مؤخرا قرب مراكز توزيع المساعدات الإنسانية، بلغ 120 قتيلا ونحو 500 مصاب خلال أقل من 10 أيام. تتضارب الروايات حول المتسبب في سقوط هذا العدد الكبير من المدنيين، في البداية وجهت أصابع الاتهام للجانب الإسرائيلي باعتباره يراقب تجمع المواطنين، ومن ثم يقوم بقصف هذه المراكز. لكن بعدما كشف ليبرمان عن هذه المجموعة المدعومة إسرائيليا انفلتت ألسنة عديد المصادر الفلسطينية، لتؤكد أن هؤلاء الضحايا سقط أغلبهم في اشتباكات مسلحة بينية بين عناصر "القسام" ومجموعة "أبو شباب"، لهذا كان رد نيتانياهو على تصريحات ليبرمان بأن "استخدام أشخاص للعمل ضد "حماس"، ليس أمرا سيئا، في النهاية ينقذ حياة جنود الجيش الإسرائيلي".
الثابت أن نيتانياهو يظل السياسي الذي تسجل باسمه هذه الآلية، عمل عليها طوال الوقت في مواجهة المكونات الفلسطينية المختلفة، لهذا لم يدهش الداخل الإسرائيلي من الكشف الأخير إلا لمجرد دخوله كمكون إضافي لتعقيدات مشهد الحرب، فهذه ليست المرة الأولى التي ينخرط فيها نيتانياهو في دعم جماعات مسلحة فلسطينية، لتقويض ومحاصرة مكون فلسطيني، "حماس" ذاتها التي يحاربها اليوم بتلك الضراوة، هي صنيعة وورقة تدين بتنامي قدراتها إلى مخطط استخدامها لإضعاف السلطة الفلسطينية.
رئيس "حزب الديمقراطيين" المعارض اليساري "يائير جولان"، علق على ما كشف عنه ليبرمان، بأن نيتانياهو يروج لتصور خطير ويصنع قنبلة موقوتة جديدة عبر تسليم قطاع غزة إلى ميليشيا مرتبطة بتنظيم "داعش". كما ينفي جولان أن يكون هذا التصور مجرد خطأ، فهو منهج ثابت لذلك يجب إبعاده فورا عن دائرة اتخاذ القرار، معتبرا أن نيتانياهو يمكن له أن "يبيع أمن الشعب الإسرائيلي، مقابل يوم إضافي في السلطة". الصخب السياسي الداخلي في إسرائيل وصل إلى ذروة حرجة، وأصداء هذا الكشف الأخير لم تشهده أروقة الحكم من قبل، فالتعبير عن الأزمة بات يلف هيكلية الحكم وصناعة القرار، حجم العداء بين أحزاب وقادة إسرائيل فضلا عن فقدان المصداقية صار عنوان المرحلة بامتياز.
فقبل الكشف عن قيام بعض من مؤسسات الدولة بتسليح ميليشيات فلسطينية، في غمار حرب مستعرة، ووجود عشرات الرهائن في قبضة "حماس" حتى الآن، كانت هناك إشكاليات أكبر وأعمق تضرب السجال الدائر بين الأحزاب الدينية "الحريديم" والمكون العلماني التقليدي للأحزاب الإسرائيلية. الجيش الإسرائيلي يشتكي من نقص عددي يحتاج أن يعوضه بصورة ملحة خلال الفترة القصيرة القادمة، حيث تفيد أرقام رئاسة الأركان بأنه في احتياج عاجل لـ"12 ألف جندي" جديد، منهم 7 آلاف سيتشكلون داخل وحدات قتالية على الفور. فيما هناك نحو 80 ألفا من الشباب الحريدي تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما، مؤهلين للخدمة العسكرية ولم يلتحقوا بها، هذا ما يدور حوله الخلاف الداخلي الآن.
المحكمة العليا الإسرائيلية قضت في يونيو الماضي، بأن الإعفاءات لطلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية، لا أساس قانونيا لها. ما دفع الجيش الإسرائيلي للبدء بمحاولات تجنيد عشرات الآلاف ممن كانوا معفيين سابقا. منذ ذلك الحين، تسعى الأحزاب الحريدية بقوة لتشريع يعيد لها مكانتها الخاصة، ويمنع التجنيد الجماعي للحريديم. التوقعات تذهب إلى أن حزب "شاس" الحريدي السفاردي، بات أقرب إلى التحالف ودعم جهود حزب "يهدوته توراة" الحريدي الاشكنازي، لتقديم مشروع قانون لحل الكنيست بسبب فشل الائتلاف في إقرار قانون يعفي طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية.
هذه الضربة التي يخشى الائتلاف الحاكم مواجهتها، وقد تدفع به إلى جحيم الانتخابات المبكرة، هي نقطة وصول سبقها ماراثون طويل وعميق من الخلافات داخل معسكر اليمين الذي تشرخ بصورة بالغة. كعادة نيتانياهو؛ يتجهز فريقه للتضحية بـ"يولي إدلشتاين" رئيس لجنة الشئون الخارجية والدفاع القوية بالكنيست، وتحميله مسئولية عدم الوصول إلى اتفاق مع الأحزاب الحريدية حول قانون التجنيد، لكن الحقيقة تعكس أن إسرائيل تواجه أزمة حكم حقيقية دون مواربة.
(الأهرام المصرية)