المجتمع العربي ... وقضايا الناس

"الصحّة الجسدية": أزمة صامتة في جسد الأمّة!

هل المجتمع العربي مريض جسديًا؟.. سؤال قد يبدو قاسيًا، لكنّه ضروري في ظلّ ارتفاع معدّلات الأمراض المُزمنة، وأنماط الحياة غير الصحيّة، ونُظم صحيّة غالبًا ما تعاني من الإجهاد أو سوء الإدارة. من هنا، إنّ المجتمع العربي اليوم يقف على مفترق طرق: بين التحوّل السريع في أنماط الحياة وبين عجز الأنظمة الصحية عن مواكبة المتغيّرات.

تُشير تقارير المُنظّمات الصحيّة إلى أنّ العرب يعانون من أمراضٍ غير مُعديةٍ تُشكّل النّسبة الأكبر من الوفيّات، إضافةً إلى عودة بعض الأمراض المُعدية في الدول المتأثرة بالنزاعات، مثل التهاب الكبد الوبائي، وهو منتشرٌ بنسبٍ مقلقةٍ في دولٍ مثل مِصر، التي سجّلت أعلى نسب إصابة عالميًا قبل انطلاق حملتها الوطنية للحدّ منه. ارتفاعٌ ملحوظٌ في نسب الإصابة، لكنّ التأخّر في التشخيص والعلاج يؤدّي إلى نسب وفاةٍ أعلى من المعدّل العالمي. في اليمن وسوريا والسودان، يعاني السكان من أمراضٍ ناتجةٍ عن الفقر، نقص الغذاء، المياه الملوّثة، والافتقار إلى الرعاية الصحية.

هل المجتمع العربي مريض جسديّا؟ الجواب الواقعي: نعم، إلى حدٍّ كبير.

الصحة الجسدية في العالم العربي تعاني، ليس فقط من أمراض الجسد، بل من ضعف الاستجابة المجتمعيّة والسياسيّة لها.

الصحة أساس حياة الإنسان وكرامته وقدرته على العمل والبناء

إنّنا نعيش في مجتمعاتٍ يرتفع فيها عدد مرضى السكري وضغط الدم أكثر من عدد الرياضيين أو من يلتزمون بنظامٍ غذائيّ متوازن، وفي ظلّ تفشّي العادات السلبية، وسوء التغذية، والضّغوط النفسية، فإنّ الجسد العربي يئنُّ بصمت.

متى يدرك الإنسان العربي أنّ الصحة ليست ترفًا، بل أساسٌ لحياته وكرامته وقدرته على العمل والبناء؟ والسؤال الأهم لماذا هذه اللّامبالاة؟ هل أصبح الفرد العربي يكره نفسَه؟ فأمّة مريضة لا يمكن أن تنهض، والوعي الصحّي ليس مسؤولية الطبيب فقط، بل مسؤولية كلّ فرد، ومسؤولية الدولة، والقوى والأحزاب. آن الأوان لأن ننقذ الجسد العربي، قبل أن ينهار تحت ضغط الأمراض التي نعرف أسبابها، لكنّنا نغضّ الطرف عنها.

إلى حدٍّ كبيرٍ، نرى الإنسان العربي فاقدًا للشغف، أليس بسبب غياب المحفّزات؟ طالما أنّ غياب الحرية يقتل الطموح، وهذا احتمال! من هنا نرى إلى حدٍّ كبيرٍ أنّ الفرد العربي لا يُبالي بصحته، وفي ذلك أسباب مجتمعيّة، فسابقًا كانت هناك تصوّرات شعبيّة حول القوّة الجسدية والصحة البدنيّة التي يتباهى بها الإنسان مقابل الاعتلال، لكن سرعان ما أصبحت هذه التصوّرات تتلاشى، بفعل قتل الحلم.

طرح زعيم المدرسة الوظيفيّة تالكوت بارسونز (1902-1979)، فكرة دور المريض لتفسير سلوكه لتخفيف الآثار الضارّة، المُربكة التي يُخلّفها المرض، فالمرض هو خلل يؤدّي إلى اضطراب الحالة المجتمعية، طالما أنّ المريض لا يؤدي أدواره المجتمعيّة. هذه الفكرة تعطينا مؤشرًا حول سلوك المريض إلى حدٍّ كبيرٍ في أوساطنا المجتمعيّة، وهو سلوك رافض للتعامل مع نفسه على أنه مريض، طالما أنّ الدولة لا تغطّي نفقات علاجه، ولا نفقات عياله خصوصًا إذا كان المُعيل، من هنا يُضطرّ إلى ألّا يعيش حالةً على أنه مريض، بل بالعكس يمارس عمله خارج المنزل كالمعتاد، حتّى وإنْ كان مصابًا بأمراض السرطان، فحقوقهُ مهدورة، ولا امتيازات يتمتّع بها.

وكأن مجتمعنا يُؤْثِر الانتحار بشكل خفيّ

تحدّث عالم الاجتماع ريتشارد ويلكنسون (مولود عام 1943)، عن اللّامساواة، فهو يرى أنّ المجتمعات الأفضل من ناحية المستوى الصحّي في العالم لا توجد في الدول البالغة الغنى والثّراء، بل في الأقطار التي يكون فيها توزيع الدخل أكثر توازنًا. إذا أردنا معاينة هذه الفكرة على أرض الواقع لدينا، نرى أن مستويات البطالة والفقر، وغياب التأمين الصحي الشامل، ما هي إلّا علامات تؤكّد أنّ مجتمعنا مريض بشكلٍ صامت، وكأنه يُؤْثِر الانتحار بشكل خفيّ، ليوحيَ أنّه ضدّ العقل، وضدّ مفهوم المدينة، الذي يُقرنه أرسطو باحترام النفس وعدم قتلها لذاتها.

إنّ دولةً لا تولي أهميةً للصحة الجسدية للمواطن، بتوفير مستلزمات الطبابة والاستشفاء والعلاج، هي دولة ضدّ المدينة كمفهوم، والقوى فيها لا تزال تتعامل بمنطق التعالي والحدّ ما بين طبقة ومراتب السلطان والملك، أمام باقي فئات المجتمع!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن