فلسطين... القضية والبوصلة

"حلّ الدولتين" بتوافق عالمي... ضرورة أو مناورة؟!

يستضيف مقر الأمم المتحدة في نيويورك (17 يونيو/حزيران)، أكبر مؤتمر عالمي حول "حلّ الدولتَيْن في الشرق الأوسط" برعاية فرنسية - سعودية، لنقل القرارات الأممية إلى التزامات دولية نافذة، وتحويل تصريحات المبادئ وحسن النوايا إلى برامج تنفيذية غير قابلة للمراجعة، في إطار عملٍ مُهيكلٍ متعدّد الأطراف، وفق خريطة طريقٍ مُلزمةٍ للجميع.

يحضر الجلسة الافتتاحية الدول الأعضاء في المنظمة الأممية كافّة، وسيتم تقسيم المؤتمر إلى ثماني لجانٍ فرعيةٍ وتنظيم 8 طاولات مستديرة موضوعاتيّة، تشارك فيها أربع قارات، باعتبار قضايا الشرق الأوسط وفكّ تعقيداته الأمنية، البوّابة نحو قيام نظام عالمي جديد، برصيد جيوسياسي توافقي بين الأمم، قوامه العدل والسلام والتعايش والاستقرار والازدهار لجميع شعوب المنطقة.

ومن المنتظر أن تترأس الأردن وإسبانيا المائدة الخاصة بموضوع السيادة الفلسطينية و"حلّ الدولتَيْن": في صيغة إسرائيل وفلسطين يعيشان جنبًا إلى جنب بضماناتٍ دولية. ويُسند موضوع الأمن في الشرق الأوسط إلى رئاسةٍ مشتركةٍ من إندونيسيا وإيطاليا، وهي اللجنة الثانية. بينما ترأس اليابان والنروج اللجنة الثالثة الخاصة بالقضايا الاقتصادية وتمويل التنمية وإعادة الإعمار.

وجود دولتين تعيشان في أمن واستقرار مطلب عربي تمّ إقراره في قمّة بيروت وقرارات مجلس الأمن ومؤتمر مدريد

وترأس البرازيل والسنغال لجنة احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي. وستكون اللجنة الثامنة هي الأكبر، ويشارك في رئاستها كلّ من الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، وستصدر عنها قرارات وتوصيات على درجة بالغة من الأهمية، لأنّ النزاع الإقليمي يقع داخل منطقة جغرافية حول ضفتَيْ البحر الأبيض المتوسط، ويتضرّر نحو مليار شخص من استمرار الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.

الظرفيّة الدولية المساعدة؟

هناك قناعة دولية بكون انعقاد مؤتمر "حلّ الدولتين" يأتي في ظرفيةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تاريخيةٍ مساعِدة، لكنّه في المقابل يواجه تحدّيات سياق محليّ خطير، بين تصوّرين متناقضين متعارضين متطرّفين إلى حدّ الكراهية، وهو ما نجم عنه عنف غير مسبوق في الشرق الأوسط تجاوز كل الأعراف والمواثيق الدولية. رفض متبادل يلغي كلّ طرف حقّ الآخر في الوجود، استنادًا إلى مرجعيات ومصالح وقناعات ذاتية: حكومة نتنياهو اليمينية تخرق القانون الدولي بقضم الأرض الفلسطينية، وبناء المزيد من المستوطنات وطمس حقوق الشعب الفلسطيني بالاعتداء على الممتلكات، وتجويع شعب غزّة ومنع الإمدادات الغذائية والطبية عنه. والطرف المقابل المتولّد عن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 يرفض حقّ إسرائيل في الوجود، وينفي التراث اليهودي والتاريخي في الشرق الأوسط. تمامًا كما يُبطل الطرف القوي المُعتدي شرعية المقاومة، وحقّ الدفاع عن النفس لدى الطرف الضعيف.

الطريق المسدود

وضعية الطريق المسدود تُحتّم على المجتمع الدولي التدخّل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قتلٍ وتشريدٍ وتجويعٍ للفلسطينيين. وأيضًا تجنّب استغلال الجماعات المتطرّفة لهذه المآسي الإنسانية، لزرع المزيد من خطاب الحقد والكراهية التي تطمر كل حظوظ آفاق السلام والعيش المشترك.

أمام هذا الوضع الكارثي يُنتظر من مؤتمر نيويورك تأكيد المنتظم الدولي على ضرورة تحقيق السلام العادل والدائم، بالاستناد إلى وجود دولتيْن تعيشان جنبًا إلى جنبٍ في أمن واستقرار. وهذا مطلب عربي تمّ إقراره في قمّة بيروت 2002، وقرارات مجلس الأمن الدولي منذ 1967، ومؤتمر مدريد 1991 ومئات القوانين الشرعية الدولية. ولا سيما مبادرة السلام العربية، وقرارات الأمم المتحدة وجهود الدول من أجل يوم السلام المنتظر.

الرأي العام الأوروبي

يمارس الرأي العام الأوروبي ضغطًا على حكومات بلاده لمعاودة النّظر في اتفاقية الشراكة والتعاون لعام 2000 مع إسرائيل بعد خرقها للقانون الدولي، بخاصة المادة الثانية المتعلّقة باحترام حقوق الإنسان في غزّة.

ما بين 18% و33% من المُستجوبين داخل الاتحاد الأوروبي يؤيّدون قيام دولة فلسطينية

وأظهر استطلاع نشره موقع "يوغوف" أنّ ما بين 18% و33% من المُستجوبين داخل الاتحاد يؤيّدون قيام دولةٍ فلسطينية. في المقابل، أعرب ما بين 7% و18% عن تأييدهم لما تقوم به دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية. لكنّ هذا الرّقم تراجع كثيرًا عمّا كان عليه في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ناقصًا 48 نقطة في ألمانيا، و54 نقطة في الدنمارك، و55 نقطة في إسبانيا، و52 نقطة في إيطاليا، و44 نقطة في فرنسا، على الرَّغم من وجود دعمٍ لتلّ أبيب من أحزابٍ يمينيةٍ بسبب الهجرة أكثر منه بسبب الوضع في الشرق الأوسط.

وتعترف 12 دولة أوروبية حاليًا بدولة فلسطين في رام الله، وتمّ منحها مساعدات بقيمة 1,2 مليار يورو ما بين 2021 و2024. وفي أبريل/نيسان الماضي، أعلن الاتحاد عن مساعداتٍ بقيمة 1,6 مليار يورو للفلسطينيين للمرحلة 2025-2027. وتقول المفوضية الأوروبية إنّها قدّمت مساعداتٍ ماليةً للسلطة الفلسطينية بلغت 1,5 مليار يورو ما بين 2023 و2024. في المقابل، تصنِّفُ بعض دول الاتحاد حركة "حماس" في غزّة كمنظمةٍ إرهابية.

ويُعتبر الاتحاد الأوروبي الزبون التجاري الأول لإسرائيل وبلغت المبادلات التجارية بينهما نحو 43 مليار يورو عام 2024. وهي نسبة تُمثّل ثلث تجارة إسرائيل مع العالم الخارجي، كما تشارك في برامج أوروبية للابتكار والبحث العلمي كلفتها 95 مليار يورو ما بين 2021 و2027.

انقسام المواقف وتزايد التأييد العربي

انقسم الرأي العام في ألمانيا بشكلٍ شبه متساوٍ، إذ أيّد 18% من الألمان قيام دولة فلسطينية، بينما قال 17% إنّهم يقفون إلى جانب الدولة العبرية لأسبابٍ تاريخية. ومن بين 27 حكومة أوروبية، أعلنت 6 فقط استمرار دعمها لتل أبيب. والمفارقة أنّ دول المعسكر الشرقي سابقًا التي كانت محسوبةً على الاتحاد السوفياتي زمن الحرب الباردة، هي التي تضمّ حاليًا العدد الأكبر المؤيّد لحكومة نتنياهو. بينما دول أوروبا الغربية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وإيرلندا والسويد والنروج أصبحت أكثر انتقادًا للحكومة الإسرائيلية. وتقف إسبانيا في الصفّ الداعي إلى فرض عقوباتٍ على إسرائيل، واعترفت مدريد بالدولة الفلسطينية مؤخّرًا، وكذلك فعلت إيرلندا وسلوفينيا.

من غير المُستبعد أن تكون رسالة نيويورك إلى الإسرائيليين هي ضرورة الإطاحة بحكومة نتنياهو

ويُتوقع أن تعلن فرنسا اعترافها بالدولة الفلسطينية خلال الأيام المقبلة. ويعمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أجل إقناع شركائه الأوروبيين بهذا الاعتراف الذي قد يصل إلى 20 دولة. وتبدو باريس أكثر الأوروبيين ديناميكيّةً وتفاؤلًا في إقناع الطرفَيْن الإسرائيلي والفلسطيني بالعودة إلى طاولة مفاوضات السلام خلال العامين المقبلين. وهي إشارة إلى أنّ السلام المُحتمل قد يكون مع حكومةٍ جديدةٍ معتدلةٍ في إسرائيل والسلطة الفلسطينية الشرعية، وليس بين فرقاء الحرب الحاليين. ومن غير المُستبعد أن تكون رسالة نيويورك إلى الإسرائيليين هي ضرورة الإطاحة بحكومة نتنياهو كمقدمةٍ لتوسيع "اتفاقيات أبراهام" وانبثاق شرق أوسط جديد، كما بشّر بذلك الرئيس دونالد ترمب خلال جولته العربية الأخيرة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن